شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب خرج كما هو ولا يتيمم

          ░17▒ بَابُ: إِذَا ذَكَرَ في المَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ خَرَجَ كَمَا هُوَ وَلَا يَتَيَمَّمُ.
          فيهِ: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: (أُقِيْمَتِ الصَّلاة وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلعم، فَلَمَّا قَامَ في مُصَلاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا: مَكَانَكُمْ، ثمَّ رَجَعَ، فَاغْتَسَلَ، ثمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ). [خ¦275]
          قال المُؤَلِّفُ: مِن الَّتابعين مَن يقول: إنَّ الُجُنب إذا نسي، فدخل المسجد فذكر أنَّه جُنُبٌ يتيمَّم، وكذلك يخرج، وهو قول الثَّوْرِيِّ وإِسْحَاقَ، وهذا الحديث يردُّ قولهم، وقال أبو حنيفةَ في الجُنُب المسافر يمرُّ على مسجدٍ فيه عين ماءٍ: فإنَّه يتيمَّم ويدخل المسجد فيستقي ثمَّ يُخرج الماء مِن المسجد، وهذا الحديث يدلُّ على خلاف قوله؛ لأنَّه لما لم يلزمه التَّيمُّم للخُرُوج، كذلك مَن اضطرَّ إلى المرور فيه جُنُبًا لا يحتاج إلى تيمُّمٍ. وقد اختلف العلماء في مرور الجُنُب في المسجد، فرخَّص فيه(1) عليٌّ وابنُ مَسْعُودٍ وابنُ عبَّاسٍ، وقال جابرٌ: كانَ أحدُنا يمرُّ في المسجدِ وهو جُنُبٌ، وممَّن رُوِيَ عنه إجازة دُخُوله عابر سبيلٍ: سعيدُ(2) بنُ المُسَيَّبِ وعَطَاءٌ والحَسَنُ وسَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ، وهو قول الشَّافعيِّ. ورخَّصت طائفةٌ للجُنُب أن يدخل المسجد ويقعد فيه، قال زيدُ بنُ أَسْلَمَ: كانَ أصحابُ رَسُولِ اللهِ صلعم يحتبون(3) في المسجد وهم جُنُبٌ، وكانَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ يقول: يجلسُ الجُنُبُ في المسجدِ ويمرُّ فيه إذا توضَّأ، ذكره ابنُ المُنْذِرِ، وقال مالكٌ والكوفيُّون: لا يدخلُ فيه الجُنُبُ، ولا عابر سبيلٍ، ورُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ أيضًا(4) أنَّه كره ذلك للجنب. وحجَّة الذين رخَّصوا في ذلك قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاة وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيْلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ(5)}[النِّساء:43]. أنَّ(6) المراد مكان الصَّلاة، فتقديره: لا تقربوا مكان الصَّلاة جُنُبًا إلَّا عابري سبيلٍ، قالوا: وقد سُمِّيَ المسجدُ باسمِ الصَّلاةِ في قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ(7)}[الحج:40]. وحجَّة الَّذين منعوا الجُنُب من دُخُول المسجد(8): أنَّ المراد بالآية نفس الصَّلاة وحملها على مكان الصَّلاة مجازٌ، على أنَّا نحملُه على عُمُومه فنقول: لا تقربوا الصَّلاة ولا مكانها على هذه الحال إلَّا أن تكونوا مسافرين فتيمَّموا واقربوا ذلك وصلُّوا، ونكون بهذا أسعد منكم لأنَّ فيه تعظيمًا لحرمة المسجد، ويمكن أن يُستدلَّ من هذه الآية بقول(9) الثَّوْرِيِّ وإِسْحَاقَ، وذلك أنَّ المسافر إذا عدم الماء مُنع دُخُول المسجد والصَّلاة فيه إلَّا بالتَّيمُّم وذلك لضرورةٍ، وأنَّه لا يقدر على ماء، فكذلك الَّذي يُجنب في المسجد _في القياس_ لا يخرج إلَّا بعد التَّيمُّم؛ لأنَّه مضطرٌ لا مَاء معه، فأشبه المسافر العابر سبيلٍ المذكور في الآية لولا ما يُعارضه مِن حديث أبي هريرةَ المُفَسِّرِ لمعنى الآية، لجواز خُرُوجه من المسجد دون تيمُّمٍ، ولا قياس لأحدٍ مع مجيء السُّنن، وإنَّما يُفزع إلى القياس عند عدمها، والله الموفِّق(10).


[1] في (م): ((في ذلك)).
[2] قوله: ((سعيد)) ليس في (م).
[3] في (م): ((يجلسون)). في (ص): ((يحتبون)) وكتب في الحاشية: ((يجلسون)).
[4] قوله: ((أيضًا)) ليس في (م).
[5] قوله: ((حتى تغتسلوا)) ليس في (م).
[6] في المطبوع و(ص): ((وأن)).
[7] قوله: ((وبيعٌ وصواتٌ ومساجدُ)) ليس في المطبوع ص، وفيه زيادة قوله: ((الآية)).
[8] في (ص): ((من المسجد)).
[9] في (ص): ((لقول)).
[10] قوله: ((ويمكن أن يستدلَّ من هذه الآية بقول... إلى قوله... مع مجيء السُّنن، وإنَّما يُفزع إلى القياس عند عدمها، والله الموفق)) ليس في (م).