الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين

          878- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا) بالجمع (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ) بالمدِّ، اسمُ جدِّ عبد الله، ووالد جويرية الآتي كما في ((التقريب)) وسقط: <ابن أسماء> للأصيلي.
          (قَالَ: حَدَّثَنَا) ولابن عساكر: <أخْبرنا> (جُوَيْرِيَةُ) مصغراً، اسم رجلٍ، ولأبي ذرٍّ: <جويرية بن أسماء> وهو عمُّ محمد الراوي عنه (عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ) ☺ (بَيْنَمَا) بالميم، وفي أكثر الأصول الصَّحيحةِ: <بينا> بلا ميمٍ.
          قال في ((الفتح)): أصلُها بين وأشبعتِ الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع، ويزاد فيها: ما فتصير: ((بينما)) وهي روايةُ يونس، وهي ظرفُ زمانٍ فيه معنى المفاجأة.
          (هُوَ):أي: عمر بن الخطابِ (قَائِمٌ) أي: على المنبر، لقوله: (فِي الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ) وقولُه: (إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ) جوابُ ((بينما)) والأفصح أنْ لا تجابَ بإذ أو إذا، ولأبوي ذرٍّ والوقت: <إذ جاء رجلٌ> هو: عثمانُ بنُ عفان، كما بيَّنه الشافعي، وقال ابن عبد البرِّ: لا أعلم خلافاً في ذلك.
          (مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ) أي: ممن شهد بدراً أو بيعةَ الرضوان، أو مَن صلى إلى القبلتين، وبذلك فسرهم سعيدُ بن المسيب، واستوجه هذا في ((فتح الباري)) لسبقهِ على الإطلاق، فإنَّ مَن هاجرَ بعد تحويل القِبْلةِ وقبل وقعة بدرٍ هو آخرُ بالنِّسبة لمن هاجرَ قبل التَّحويل.
          وقوله: (مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلعم) كالتَّأكيد لما يُفهمُ من ((المهاجرين الأولين)).
          (فَنَادَاهُ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب، فقال له: يا فلانُ (أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟) أنَّث أي الاستفهام لتأنيث المضاف إليه، وفي مثله يجوز التأنيثُ والتَّذكيرُ، يقال: أيُّ امرأةٍ جاءتك، وأيَّةُ امرأةٍ جاءتك، نصَّ عليه الكرماني وغيرُه، والاستفهامُ للإنكار التَّوبيخي ليرتدعَ كغيره.
          قال في ((الفتح)): وردَ التصريحُ بالإنكار في رواية أبي هريرةَ، فقال عمر: لمَ تحتبسون عن الصَّلاة؟ وفي رواية مسلمٍ: فعرَّضَ به عمر، فقال: ما بالُ رجالٍ يتأخَّرون بعد النِّداء؟ والذي يظهرُ أنَّ عمرَ قال جميع ذلك، فحفظَ بعضُ الرُّواة ما لم يحفظِ الآخر، ومرادُ عمر التَّلميحُ إلى ساعات التَّبكير التي رُغِّب فيها، وأنها إذا انقضتْ طوت / الملائكة الصُّحفَ كما يأتي قريباً، وهذا مِن أحسن التَّعريضات، وأشرفِ الكنَايات، وقد فهم عثمانُ ذلك فبادرَ إلى الاعتذار.
          تنبيه: الساعةُ معروفةٌ لغةً واصطلاحاً، وتطلق على الوقت الحاضر وهو المرادُ هنا.
          وقال ابنُ الملقن: والساعةُ اسمٌ لجزءٍ مِن الزمان مخصُوص، وتطلق على جزءٍ من أربعةٍ وعشرين جزءاً هي مجموعُ اليوم والليلة، وعلى جزءٍ ما غير مقدَّرٍ من الزمان، ولا متحقِّق، وعلى الوقتِ الحاضر والهندسِي يُقسمُ اليومُ على اثني عشرَ قسماً، وكذا الليلةُ طالا أم قصُرا، فيسمُّونه ساعةً، ويسمُّون هذه الساعات: المعوجَّةَ، وتلك: المستقيمة.
          (فَقَالَ) أي: الرجل، وهو عثمانُ كما مرَّ.
          (إِنِّي شُغِلْتُ) بالبناء للمفعول؛ أي: انشغلت (فَلَمْ أَنْقَلِبْ) أي: فلم أرجعْ (إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ) أي: الأذان بين يدَيِّ الخطيب، وقد بيَّنَ سببَ شغله في رواية عبدِ الرحمن بن مهدي حيث قال: انقلبتُ من السُّوق فسمعتُ النداءَ.
          (فَلَمْ أَزِدْ) بكسر الزاي؛ أي: فلم أشتغلْ بشيءٍ بعد سماعَ الأذان إلا بالوضُوء. وفيه إشارةٌ إلى أنه دخل المسجدَ في ابتداء شُروع عمرَ في الخطبة.
          (أَنْ تَوَضَّأْتُ) قال العينيُّ وتبعه القسطلاني: كلمةُ ((أنْ)) هذه صلةٌ زيدتْ لتأكيد النفي. انتهى.
          وأقول: لا يخفى أنَّ المعنى: <فلم أزدْ على أنْ توضَّأتُ> كما للأصيلي، فلا تكونُ زائدةً كما ادَّعى، فتدبرْ.
          (فَقَالَ:) أي: عمر، منكراً إنكاراً آخرَ على تركه سُنَّةً مؤكدةً (وَالوُضُوءَ أَيْضاً؟) بالواو ونَصَبَ ((الوضوءَ)). قال في ((الفتح)): كذا في روايتنا، وعليه اقتصر النوويُّ في ((شرح مسلم)) أي: والوضوء أيضاً اقتصرتَ عليه؟ أو اخترتَه دون الغسل؟ والمعنى: أمَا اكتفيتَ بتأخير الوقت وتفويتِ الفضيلة حتى تركتَ الغسلَ واقتصرت على الوضوء؟
          وقال القرطبي: الواو عوضٌ عن همزة الاستفهام كقراءة ابن كثير: {قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف:123] وكذا ذكره الزركشيُّ في ((التنقيح)).
          واعترضَه الدَّماميني في ((المصابيح)): بأنَّ إبدالَ الهمزة في الآية واواً صحيحٌ لوقوعها مفتوحةً بعد ضمةٍ، وليس في الحديث كذلك، فلا وجهَ لإبدالها، فلو جعل على تقدير الهمزة مِن جواز حذفها قياساً عند أمنِ اللبسِ لكان جارياً على مذهب الأخفش ومَن وافقه.
          والظاهرُ كما في ((الفتح)) و((العمدة)) أنَّ الواوَ عاطفةٌ على الإنكار السابق، ولأبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي: <فقال: الوضوءَ> بالنصب وترك الواو؛ أي: أتتوضأ الوضوءَ، وجوَّز القرطبي الرفعَ وهو الذي في ((اليونينية)).
          قال في ((الفتح)) بعد أنْ نقل أنَّ القرطبيَّ جوَّز الرفعَ: وأغربَ السهيلي فقال: اتفق الرواةُ على الرفع؛ لأنَّ النصبَ يخرجه إلى معنى الإنكار، يعني: والوضوءُ لا ينكرُ، وجوابه ما تقدم. انتهى
          يعني مِن تقدير نحو: اخترتَ الوضوءَ وحده؟ وأمَّا الرفعُ فوجهُه إمَّا على أنه مبتدأٌ حُذف خبرُه؛ أي: والوضوءُ تقتصر عليه؟ مثلاً، وإمَّا على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: كفايتُك الوضوءُ؟
          ونقل البرماويُّ _كالزَّركشي_ عن ابن السيد أنه رُوي بالرفع على لفظِ الخبر، والصَّوابُ عليه أنَّ ((آلوضوء)) بالمدِّ استفهامٌ، كقوله تعالى: {آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس:59] / ويجوز النصبُ؛ أي: أتخيرتَ الوضوءَ؟
          واعترضَه في ((المصابيح)): بأنَّ نقلَ كلامِ ابنِ السيد بقصد توجيه ما في البخاري غلطٌ، فإنَّ كلامَ ابنِ السيد في توجيه حديث ((الموطأ)) وليس فيه واوٌ، فيمكنُ الإبدالُ لاجتماع الهمزتين، وحديثُ المصنف فيه واوٌ فلا تجتمع همزتان لتبديل أولاهما ألفاً.
          لكنْ أجيب عن اعتراض الدَّماميني: بأنَّ الظاهرَ أنه لم يطَّلعْ على رواية الحموي والمستملي، وإلا فمثلُ ما في كلام ابنِ السيد مثلُ ما في البخاري. انتهى فتدبر.
          والحاصل أنَّ ((الوضوء)) بالواو وحذفها، وعليها: فالوضوءُ مرفوعٌ أو منصوبٌ، وقد عرفتَ توجيهَها بما لا مزيد عليه، فاعرفْه.
          و((أيضاً)): منصوبٌ على المصدرية لفعلٍ مضمرٍ؛ أي: آضَ يئيضُ أيضاً، وقيل: منصوبٌ على الحال؛ أي: راجعاً.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): لم أقفْ في شيءٍ مِن الروايات على جواب عثمان عن ذلك، والظاهرُ أنه سكتَ عنه اكتفاءً بالاعتذار الأول؛ لأنه أشار إلى أنه كان ذاهلاً عن الوقت، وأنه بادرَ عند سماع النداء، وإنما تركَ الغُسلَ؛ لأنه تعارضَ عنده إدراكُ سماعِ الخطبة والاشتغالُ بالغسل، وكلٌّ منهما مرغَّبٌ فيه، فآثر سماعَ الخطبة، ولعلَّه كان يرى فرضيتَه، فلذلك آثره.
          وجملة: (وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يَأْمُرُ بِالغُسْلِ) حالٌ من ((الوضوء)) والعاملُ فيها المقدَّرُ، ورواه جويريةُ عن نافعٍ بلفظ: ((وقد علمتَ أنَّا كنَّا نُؤمر بالغسل))، ففيها بيانُ المأمور، وروى الطحاوي عن ابن عباسٍ في هذه القصةِ أنَّ عمرَ قال له: لقد علم أنَّا أُمرنا بالغسل، قلتُ: أنتم أيها المهاجرون الأولون أمِ الناس جميعاً؟ قال: لا أدري. رواته ثقاتٌ إلا أنه معلولٌ.
          وقد وقع في ((الصحيحين)) من رواية أبي هريرةَ في هذه القصةِ أنَّ عمرَ قال: ألم تسمعوا أنَّ رسولَ الله صلعم قال: ((إذا راح أحدُكم إلى الجمعةِ فليغتسلْ)) وهو ظاهرٌ في عدم التَّخصيص بالمهاجرين الأولين.
          وفي هذا الحديث من الفوائد:
          القيامُ في الخطبة وعلى المنبر، وتفقدُ الإمامِ رعيته وأمره لهم بمصالح دينِهم، وإنكارُه على مَن أخلَّ بالفضل وإن كان عظيم المحلِّ، ومواجهتُه بالإنكار ليرتدعَ مَن هو دونَه بذلك، وأنَّ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدُها، وسقوطُ منعِ الكلام عن المخاطب بذلك.
          وفيه: الاعتذارُ إلى ولاة الأمر وإباحةُ الشغل والتصرفِ يوم الجمعة قبل النداء، ولو أفضَى إلى ترك فضيلة البُكورِ إلى الجمعة؛ لأنَّ عمرَ لم يأمرْ برفع السوق بعد هذه القصة، واستدلَّ به مالكٌ على أنَّ السوقَ لا يُمنعُ يوم الجمعة قبل النداء؛ لكونها كانت في زمن عمرَ، ولكونِ الذاهبِ إليها مثلُ عثمان، ومذهبُ غيرِ مالكٍ كذلك.
          وفيه: شهودُ الفضلاء السوقُ، ومعاناةُ المتجر فيها.
          وفيه: أنَّ فضيلةَ التوجه إلى الجمعة إنما تحصلُ قبل التَّأذين.
          والحديثُ أخرجه الترمذيُّ في الصلاة، ومطابقتُه للترجمة في الجزء الأول منها، وهو فضيلةُ الغسل.