الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب يستقبل الإمام القوم واستقبال الناس الإمام إذا خطب

          ░28▒ (بَابٌ: يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ الْقَوْمَ) أي: المستمعين لخطبته ويستدبرُ القبلة، وقوله: (وَاسْتِقْبَالِ) بالجر والرفع (النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا خَطَبَ) وسقط لغير كريمةَ إلا الأصيلي فثبُتَ له، لكن سقط له: <يستقبل الإمام القوم> وثبت الجميعُ لكريمة، والمطلوبُ: أن يستقبل كلٌّ منهم الآخَرَ عند الخطبة ليتفرَّغوا لسماعِ الموعظةِ، فيكونُ أقرب لانتفاعهم، ولما فيه من سلُوكِ الأدَبِ.
          قال في ((الفتح)): ولم يثبتِ الحكمُ، وهو مستحبٌّ عند الجمهورِ، وفي وجهٍ: يجبُ، وجزمَ به أبو الطَّيِّب الطَّبري من الشَّافعيَّة، فلو خالف أجزأ، وقيل: لا، كما ذكرهُ الشَّاشيُّ، ونقل النَّووي في ((شرح المهذب)): أن الالتفاتَ يميناً وشمالاً مكروهٌ اتِّفاقاً، إلا ما حكيَ عن بعضِ الحنفيَّة وأنكرهُ أكثرهم ومن لازم استقبالِ الإمام القوم استدبارُهُ القبلَةَ، واغتفر لئلا يصير مستدبرَ القوم الذين يعظُهُم.
          (وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ) أي: ابن الخطَّاب ☻ (وَأَنَسٌ) أي: ابن مالكٍ (♥ الإِمَامَ) أمَّا أثرُ ابن عمر فرواه البيهقيُّ بسندهِ إلى نافعٍ: أنَّ ابن عمر كان يفرُغُ من سبحتهِ يوم الجمعة قبلَ خروج الإمام، فإذا خرجَ لم يقعُدْ الإمامُ حتى يستقبلَه، وأمَّا أثرُ أنسٍ فرواه ابنُ المنذر من وجهٍ آخرَ عن أنسٍ: أنَّه جاء يوم الجمُعة فاستندَ إلى الحائطِ واستقبَلَ الإمام، ورواهُ أيضاً في نسخة نعيم بن حمَّادٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن أنسٍ: أنَّه كان إذا أخذ الإمامُ في الخطبة يوم الجمعة يستقبلُهُ بوجههِ حتى يفرُغَ من الخطبةِ.
          قال التِّرمذيُّ: لا يصحُّ فيه شيءٌ عن النَّبيِّ صلعم، وقال ابنُ المنذِر: لا أعلمُ في ذلك خلافاً بين العلماء.
          وحكى غيره عن سعيد بن المسيَّب: أنه كان لا يستقبلُ هشامَ بن إسماعيل بن الوليد المخزومِي إذا خطَبَ حين كان والياً على المدينة، فوكَّل به هشام شرطيًّا يعطفُهُ إليه، وهشامٌ هذا هو الذي ضرب سعيد بن المسيَّب بالسِّياط.
          وكذا حكى في ((المغني)): عن الحسن: أنَّه استقبلَ القبلة ولم ينحرِفْ إلى الإمام، فقول ((الفتح)) فيما ذكر عنهما: إنَّه شيءٌ محتملٌ، انتهى محلُّ تأمُّلٍ.
          وقال ابن رجبٍ: رويَ عن بعض التَّابعين: أنه كان يستقبل القبلَةَ حال الخطبة، وهو محمولٌ على / أنَّهم كانوا يفعلونه مع أميرٍ ظالمٍ يسبُّ السَّلف، ويقول ما لا يجوز استماعُه، وكانوا ابتلوا بذلك في زمنِ بني أميَّةَ، والأكثرُ على أنهم يستقبلونه في حال الخطبةِ، وهو قول أحمدٍ وغيره، وذكر التِّرمذيُّ أنَّ العملَ على ذلك عند أهل العلم من الصَّحابة وغيرهم، فيستحبُّون استقبال الإمام إذا خطَبَ، قال: وهو قول سُفيان والشَّافعي وأحمد وإسحاق.
          وقال ابنُ المنذر: هو كالإجماع ورويَ عن الشَّعبي أنَّه قال: هو السنَّة، ومثله عن يحيى بن سعيدٍ، وكذا قال مالكٌ، وقال ابنُ عبد البر: لا أعلمهم يختلِفُون فيه، وقال عمرُ بن عبد العزيز: كلُّ واعظٍ قبلةٌ؛ يعني: يستقبلُ كما تستقبلُ القبلَةُ، انتهى ملخَّصاً.
          وقال أيضاً نقلاً عن التِّرمذي: في الباب أحاديثُ مرفوعةٌ لا تصحُّ أسانيدها.
          وظاهرُ هذا الكلام وحديث الباب: أنه يسنُّ لهم أن يستقبلوا الإمام وإن بعدوا، فيستديرُون إلى الإمام حال الخطبة، فإذا فرُغَ توجَّهوا.
          لكن قيَّده العينيُّ بذلك فقال: الظَّاهرُ: أنَّ المرادَ بهم: من يسمعُ الخطبةَ دون من بعُدَ فلم يسمع، فاستقبالُ القبْلةِ له أولى من توجُّهه لجهةِ الخطِيبِ، وقال أيضاً: ثمَّ إنَّ الرَّافعِي والنَّووي جزما باستحبابِ ذلك، وصرَّح القاضي أبو الطَّيِّب بوجوبهِ.
          وقال أيضاً نقلاً عن ((المبسوط)): كان أبو حنيفة إذا فرُغ المؤذِّن من أذانه أدارَ وجهه إلى الإمام، وهو قول شريحٍ وطاوسٍ ومجاهد وسالم والقاسم وزادان وعمر بن عبد العزيز وعطاء، وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ والثوري وسعيد بن عبد العزيز وابن جابر ويزيدُ بن أبي مريم والشَّافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابنُ المنذر: وهذا كالإجماع، انتهى فليتأمَّل ما استظهرهُ مع ما نقله.