الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: من أين تؤتى الجمعة؟

          ░15▒ (بَابٌ: مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ) ببناء تُؤتَى للمفعول؛ أي: مِنْ أيِّ مكانٍ يحضر الشخصُ الجمعةَ.
          (وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟) أي: الجمعةُ، معطوفٌ على: ((مِنْ أينَ)) (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ}) أي: أذن ({لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}) أي: بين يدي الخطيبِ ({فَاسْعَوا}) أي: امضوا.
          ({إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]) أي: إلى الصلاة أو الخطبةِ، وسقط: <{فَاسْعَوا إلَى ذِكرِ اللهِ}> لغير أبي ذرٍّ والأصيلي، ولما لم تكن الآيةُ صريحةً في بيان الحكم المذكور أتى بالاستفهام، لكنَّ استدلالَ المصنف بها للوجوبِ كالشَّافعي في ((الأم)) لأنَّ الأمرَ بالسَّعي لها أو إلى خطبتها يدلُّ عليه، أو لأنَّ مشروعيةَ النداء لها بالأذان مِن خواصِ الفرائض.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) أي: ابنُ أبي رباحٍ مما وصله عبدُ الرزاق عن ابن جريجٍ عنه.
          (إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ، فَنُودِيَ) بالفاء، وسقطت لأبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي، ولعلَّ الجملة عليه حينئذٍ حالٌ، أو صفةٌ بتقدير: عائد، والأقرب: أنها بدلٌ مِن ((كنتَ)).
          (بِالصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ) وقولُه: (فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا) بفتح أولِه، جوابُ: ((إذا)).
          (سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ) كما قد يدلُّ له: (({إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ})).
          ومعنى: ((إذا كنتَ في قريةٍ)): أي: داخلها، وبذلك صرَّحَ أحمدُ.
          ونقل النووي: أنه لا خلافَ فيه.
          وزاد عبدُ الرزاق فيه عن ابن جريجٍ: قلتُ لعطاء: ما القريةُ الجامعة؟ قال: ذاتُ الجماعةِ والأمير والقاضي والدورِ المجتمعة الآخذِ بعضها ببعضٍ، مثل جدة، والذي ذهب إليه الجمهورُ أنها تجبُ على مَن سمع النداءَ، أو كان في قوة السامعِ سواءٌ كان داخلَ البلد أو خارجَه، لكنَّ محلَّه _كما صرح به الشافعي_ إذا كان المنادي صيِّتاً والأصواتُ هادئةٌ والرجلُ سميعاً، ويمكن حملُ قولِ عطاءٍ / عليه.
          وفي ((سنن أبي داود)) مِن حديث ابنِ عمرٍو مرفوعاً: ((إنما الجمعةُ على مَن سمع النداء)) وقال: اختُلفَ في رفعه ووقفه، وأخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جده مرفوعاً، ومثلُه قولُه عليه الصلاة والسلام لابن أمِّ مكتومٍ: ((أتسمعُ النداءَ؟))، قال: نعم، قال: ((فأجبْ)).
          وروى الترمذي عن أبي هريرةَ رفعه: ((الجمعةُ على مَن آواه الليلُ إلى أهله)) ولم يرَه أحمدُ شيئاً، وقال لقائله: استغفرْ ربَّك، لكنْ تقدم نحوه مِن قولِ ابن عمرَ.
          ومعناه: أنها تجبُ على مَنْ يمكنه الرجوعُ إلى أهله قبل دخولِ الليل.
          واستُشكلَ كما في ((الفتح)): بأنه يلزمُ منه أنه يجبُ السعيُ مِن أوَّلِ النهار، وهو بخلاف الآية، وقد يقال: ما في الآيةِ محمولٌ على الأغلب، وإلا فقد قال الفقهاء: يجب السعيُ على بعيدِ الدار ولو مِن أولِ النهار، فاعرفه.
          (وَكَانَ أَنَسٌ) أي: ابنُ مالكٍ مما وصلَه مسدد في ((مسنده الكبير)) عن حميدٍ بهذا (فِي قَصْرِهِ، أَحْيَاناً) جمعُ حينٍ؛ أي: في بعض الأزمان (يُجَمِّع) بضمِّ أوله وتشديد الميمِ المكسورة؛ أي: يصلي بمَن معه الجمعةَ في قصره، أو يشهدُ الجمعةَ بجامع البصرة (وَأَحْيَاناً لَا يُجَمِّعُ) يفيد أنه لا يرى الوجوبَ على مَن كان كذلك لبعد المسافة.
          (وَهوَ) أي: قصرُه (بِالزَّاوِيَةِ) بالزاي: موضعٌ ظاهرُ البصرةِ معروفٌ، كان أنسٌ يسكنه (عَلَى فَرْسَخَيْنِ) أي: مِن البصرة.
          قال في ((الفتح)): وكانت به وقعةٌ كبيرةٌ بين الحَجَّاجِ وابنِ الأشعث.
          وهذا التعليقُ وصله ابنُ أبي شيبةَ أيضاً من وجهٍ آخرَ عن أنسٍ أنه كان يشهد الجمعةَ من الزاوية، وهي على فرسخين من البصرة، وهذا يردُّ على مَنْ زعم أنَّ الزاويةَ موضعٌ بالمدينة النبوية كان فيه قصرٌ لأنسٍ على فرسخين منها، وعُرفَ بهذا أنَّ التعليقَ المذكور ملفقٌ مِن أثرين، ولا يعارضُ ذلك ما رواه عبدُ الرزاق عن معمرٍ عن ثابتٍ قال: كان أنسٌ يكون في أرضه وبينه وبين البصرةِ ثلاثةُ أميالٍ، فيشهد الجمعةَ بالبصرة؛ لأنه جمع بأنَّ الأرضَ المذكورة غيرُ القصرِ، وبأنَّ أنساً كان يرى التجميعَ حتماً إن كان على فرسخٍ، ولا يراه حتماً إذا كان على أكثر من ذلك، ولهذا لم يقعْ في رواية ثابتٍ التخييرُ الذي في رواية حميدٍ.