الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل

          877- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) أي: التِّنِّيسي (قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ) كذا لابن عساكر، وللأكثر: <عن عبدِ الله بن عمرَ> أي: ابن الخطاب.
          (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ) هذا الحديثُ أخرجه / مسلمٌ أيضاً والأربعة.
          وفي روايةٍ لمسلم من طريق اللَّيث عن ابن عمر مرفوعاً: ((إذا أراد أحدُكم أنْ يأتيَ الجمُعةَ فليغتسلْ)) وفي روايةٍ له: ((مَنْ جاءَ منكم الجمُعةَ فليغتسلْ)) وفي روايةٍ لابن حبَّان وأبي عَوانة: ((مَن أتى الجمُعةَ مِن الرجال والنساء فليغتسلْ)) ورواه ابنُ خزيمةَ بزيادة: ((ومَن لم يأتِها فليس عليه غسلٌ من النساء والرجال)).
          وهذا الحديثُ قد ساقه أبو عوانةَ من طرقٍ بلغتْ سبعين نفساً، وزاد عليه الحافظُ ابنُ حجر، وأفرده بمؤلفٍ، قال: فبلغتْ أسماءُ مَن رواه عن نافعٍ مائةً وعشرين نفساً، وهو يدلُّ على طلب غسل الجمعة لمن يريد حضورَها، ولا ينافيه كونُ الفاء للتعقيب المشعر بتأخرِ الغسل عن المجيء؛ لأنه على تقديرِ الإرادة المصرحِ بها في رواية الليثِ السابقة كما علمْتَ، على حدِّ: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] فإنَّ المرادَ به: إذا أردتم المناجاةَ بلا خلافٍ.
          وسببُ ذكر الحديث يُستفاد مما رواه أبو عَوانةَ وقاسمُ بن أصبَغَ من طريق إسماعيلَ بن أميَّةَ عن نافعٍ قال: كان الناسُ يغدون في أعمَالهم فإذا كانت الجمعةُ جاؤوا وعليهم ثيابٌ متغيرةٌ، فشكوا ذلك إلى رسولِ الله صلعم فقال: ((مَن جاء منكم الجمُعةَ فليغتسلْ)).
          قال في ((فتح الباري)): ويقوي روايةَ الليثِ حديثُ أبي هريرة الآتي قريباً بلفظ: ((مَن اغتسلَ يوم الجمعة ثم راح)) فهو صريحٌ في تأخرِ الرواح عن الغسل، وعُرف بهذا فسادُ قولِ مَن حمله على ظاهرهِ، واحتجَّ به على أنَّ الغسلَ لليوم لا للصلاة، ثم قال: واستُدِلَّ به لمالكٍ في أنه يعتبر أنْ يكونَ الغسلُ متَّصلاً بالذَّهاب، ووافقَه الأوزاعيُّ والليثُ، والجمهورُ قالوا: يجزئ مِنْ بعد الفجر، ويشهدُ لهم حديثُ ابن عباسٍ الآتي قريباً.
          وقال الأثرمُ: سمعت أحمدَ سُئل عمَّنْ اغتسل ثم أحدثَ هل يكفيهِ الوضوءُ؟ فقال: نعم، ثم قال: ومقتضَى النظر أنْ يقالَ: إذا عرف أنَّ الحكمَةَ في الأمرِ بالغسل يوم الجمعة، والتَّنظيفُ رعايةُ الحاضرين من التأذِّي بالرائحة الكريهة فمَن خشيَ أنْ يصيبَه في أثناء النَّهار ما يزيل تنظيفَه استحبَّ له أنْ يؤخِّرَ الغسلَ لوقتِ ذهابه، ولعلَّ هذا هو الذي لحظه مالك. انتهى ملخصاً.
          وأقول: الصحيحُ عندنا أنَّ الغسلَ للصلاة لا لليوم، لكنْ لا يشترطُ أنْ يصليَ فيه، ويدخل وقتُه بالفجر، ويفوت بصلاة الجمعةِ، وأنَّ الجمهورَ على أنه سنةٌ لمن أراد حضُورَها سواء لزمته أم لا.
          قال ابن الملقِّن: وهو مذهبُ مالكٍ، وقيل: سنة لكلِّ أحدٍ بناءً على أنه لليوم، ويتأكَّدُ في الذكورِ أكثر من النساء؛ لأنه في حقِّهنَّ قريبٌ من الطيب، وفي حقِّ البالغ أكثر من الصَّبيِّ. انتهى.
          قال في ((الفتح)): وحكى ابنُ عبد البرِّ الإجماعَ على أنَّ مَن اغتسلَ بعد الصَّلاة لم يغتسلْ للجمعة، ولا فعل ما أُمر به، وادَّعى ابنُ حزمٍ أنه قولُ جماعةٍ من الصَّحابة والتابعين، وأطالُ في تقريرِ ذلك بما هو بصدد المنع، ولم يوردْ عن أحدٍ ممَّن ذكر التصريح بإجزائه بعد الصلاة، وإنما أوردَ عنهم ما يدلُّ على أنه لا يُشترط اتصالَ الغسل بالذَّهاب إلى الجمعة، وأخذ منه أنه لا فرقَ بين ما قبل الزوال وبعدَه، والفرقُ بينهما ظاهرٌ. انتهى ملخصاً.
          وقال / قبل ذلك: ولقد أبعدَ الظَّاهريُّ إبعاداً يكاد أنْ يكونَ مجزوماً ببطلانه حيث قال: لو اغتسلَ قبل الغروب كفَى، تعلقاً بإضافة الغسل لليوم، وقد تبيَّن من بعضِ الروايات أنَّ الغسلَ لإزالة الروائح الكريهة، وذلك لا يتأتَّى بعد الجمُعة. انتهى.
          واستدلَّ به على أنَّ الغسلَ لا يشرع لمن لم يحضرْها، وهو الأصحُّ عند الشافعية، وبه قال الجمهورُ خلافاً لأكثر الحنفية، والتعبيرُ بالمجيء للغالبِ، وإلا فيسنُّ لمن كان مجاوراً بمحلِّ الصلاة أو مجاوراً، وقوله: ((أحدكم)) يشمل النساءَ والصبيانَ أيضاً، ويدلُّ له ما عند أبي عَوَانةَ وابني خزيمة وحبَّان في ((صحاحهم)) بأسانيدَ رجالها ثقاتٌ بلفظ: ((مَن أتى الجمعةَ مِن الرجال والنِّساء فليغتسلْ، ومَن لم يأتِها فليسَ عليه غسلٌ)).
          وهذا ونحوه يدلُّ بظاهرهِ للظاهرية الموجبين له، وأُجيب: بأنه محمولٌ على التأكيدِ، أو على النَّسخ ممَّا رواه أبو داود والترمذيُّ عن سمرةَ بلفظ: ((مَن توضَّأ يومَ الجمُعة فبها ونعمَتْ، ومَن اغتسَلَ فالغسْلُ أفضَلُ)) وفي روايةٍ: ((فهو أفضلُ)).