الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة

          ░19▒ (بَابٌ: لَا يُفَرَّقُ) بتشديد الراء مبنيًّا للفاعل أو للمفعول (بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) و((لا)) ناهية أو نافية بمعناها، وعلى كلٍّ فقد بتَّ الحكم لنهيهِ عن التَّفرقة بين اثنين، لا كما في ((الفتح))، إلا أن يقال: مرادُهُ: أنه لم يبتَّهُ بالكراهَةِ أو الحرمة على التَّعيين، والتَّفرقةُ بينهما تشمل أمرين:
          أحدهما: التَّخطِّي.
          والثاني: أن يزحزحَ رجلين من مكانِهِما ويجلسَ بينهما.
          فالأول _كالثاني_ مكروهٌ لأحاديث، منها: أنَّه عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يتخطَّى رقاب النَّاس فقال له: ((اجلسْ فقد آذيتَ وآنَيتَ))، رواه ابن ماجَه والحاكمُ وصحَّحاهُ عن جابرِ بن عبد الله.
          ومنها: في الطَّبراني عن أنسٍ: أنه قال لرجلٍ: ((رأيتُكَ تخطِّي رقابَ النَّاسِ وتُؤذِيهِم، من آذَى مُسلِماً فقد آذَانِي، ومن آذَانِي فقد آذَى الله)).
          وروى التِّرمذيُّ عن معاذ بن سهلٍ وقال: غريبٌ، قال رسول الله صلعم: ((من تخَطَّى رقَابَ النَّاسِ يوم الجمعة اتَّخذَ جِسراً إلى جهنَّمَ)).
          قال العراقيُّ في ((شرحه)) المشهور: ((اتخذ)) مبنيًّا للمفعول؛ أي: جعلَ جسراً على جهنَّم ليوطأَ ويتخطَّى كما تخطَّى رقاب النَّاس، فإن الجزاء من جنسِ العمل، وقال: يحتملُ بناؤه للفاعل؛ أي: اتَّخذ لنفسهِ جسراً يمشي عليه إلى جهنَّم بسبب ذلك، ولأبي داودَ من طريق عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه رفعه: ((ومن تخَطَّى رقَابَ النَّاس كانت له ظهراً))، بمعنى: أنَّها لا تكون له كفَّارة لما بينَهُما.
          وفي ((الموطأ)): عن أبي هريرة: ((لأن يُصلِّي أحدُكُم بظَهرِ الحرَّةِ خيرٌ له من أن يقعُدَ حتَّى إذا قامَ الإمامُ يخطُب جاءَ يتخَطَّى رقَابَ النَّاس)) ومعناه: أنَّ الإثم في التَّخطِّي أكثرُ من الإثم في التَّخلُّف عن الجمعة، وقيل: إن صلاته بالحرَّةِ المعروفة مع بعدها خيرٌ له من التَّخطِّي.
          واستثني الإمامُ فلا يُكره له التَّخطِّي إذا لم يبلغ المحرابَ إلا به، وكذا من احتاجَ للتَّخطِّي لحاجةٍ لا بدَّ منها من نحو وضوءٍ أو غيره، أو لكونه لا يجدُ موضعاً للصَّلاة بدونه، وكذا لو آذتهم الشَّمس فلهم أن يشقُّوا الصُّفُوف ويدخلوا الفيءَ موضعاً، وقيَّدهُ الأوزاعيُّ بمن ظهر صلاحه لتبرُّكِ النَّاسِ / به، قاله ابن حجر في ((التحفة))، ومناقشةُ العيني هنا لا تردُّ؛ لأنَّ الفقه نقلٌ، فتدبَّر.
          قال ابن الملقِّن: واختلف العُلماء في التَّخطِّي، فمذهبنا: أنَّه مكروهٌ إلا أن يكون أمامهم فرجةٌ لا يصلها إلا بالتَّخطِّي، وبهذا قال الأوزاعيُّ وآخرون، وقال ابن المنذر: كراهتهُ مطلقاً عن سلمان وأبي هريرة وكعب وسعيد بن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل، وعن مالكٍ: كراهتهُ إذا جلس على المنبرِ لا قبلهُ.
          وقال الأوزاعيُّ: يتخطَّاهم إلى السَّعةِ، وهذا يشبهُ قول الحسن: يتخطَّاهُم إذا كان في المسجد سعةٌ، وقال ابن المنذر: لا يجوز شيءٌ من ذلك عندي؛ لأنَّ الأذى يحرم قليلهُ وكثيره، قلتُ: وهو المختار.
          وفي كتب الحنفيَّةِ: لا بأس بالتَّخطِّي والدُّنو من الإمام إذا لم يؤذِ النَّاس، وقيل: لا بأس به إذا لم يأخذ الإمامُ في الخطبة، ويكرهُ إن أخذ، وهو قول مالكٍ، انتهى.
          واختلفوا في هذه الكراهةِ، والصَّحيح: أنَّها للتَّنزيهِ كما قاله النَّووي في ((شرح المهذب))، وإن قال في ((زوائد الروضة)): المختارُ: تحريمهُ للأحادِيثِ الصَّحيحةِ، واقتصرَ أحمدُ على الكراهَةِ.
          والتَّقييدُ بيوم الجمعةِ في الترجمة وفي كلام الشَّافعيَّةِ، ونص ((الأم)): وأكرهُ تخطِّي رقاب النَّاسِ يوم الجمعة لما فيه من الأذَى وسوءِ الأدب، انتهى.
          والتَّعليلُ يعمِّم الحكم ليوم الجُمعة وغيره، وإنما ذكروهُ فيها لكثرةِ الوقوع فيها بسبب الزِّحامِ، أو خرج مخرجَ الغالب، وإلا فغيرُها كذلك، وكذا سائرُ مجامعِ الخير كحلَقِ العلم، ففي ((مسند الفردوس)) عن أبي أمامة قال رسولُ الله صلعم: ((من تخَطَّى حلقَةَ قَومٍ بِغَيرِ إذنِهِم فهو عاصٍ))، لكنه ضعيفٌ، ويؤخذُ منه: أن التَّخطِّي بعد الاستئذان غير مكروهٍ.
          ومن الأحاديث الدَّالَّةِ على التَّسوية بين التَّفريق والتَّخطِّي _وإن أوهم كلام القسطلاني خلافه_ ما رواهُ أحمد في ((مسنده)) عن النَّبي صلعم أنَّه قال: ((إنَّ الذي يتخطَّى رقاب النَّاسِ أو يفرِّقَ بين اثنين بعد خُرُوج الإمامِ كالجَارِ قصبهُ في النَّارِ))، وما رواهُ الطَّبرانيُّ في ((الكبير)) عن عثمان بن الأزرق بلفظ: ((من تخَطَّى رقَابَ النَّاسِ بعد خروجِ الإمَامِ أو فرَّقَ بين اثنَينِ كان كالجَارِّ قصبَهُ في النَّارِ)).
          وفي ابن الملقِّن: روى ابنُ وهبٍ عن عبد الله بن عَمرو أنَّ رسول الله صلعم قال: ((لا يحِلُّ لرجُلٍ أن يفرِّقَ بين اثنَينِ إلا بإذنِهِما)).
          وقال في ((الفتح)): والمشهورُ عند الشَّافعيَّة: الكراهةُ، كما جزمَ به الرَّافعيُّ، والأحاديثُ الواردةُ في الزَّجر عن التَّخطِّي مخرجةٌ في ((المسند)) والسنن، وفي غالبها ضعفٌ.