الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب المشي إلى الجمعة

          ░18▒ (بَابُ المَشِي إِلَى الجُمْعَةِ) أي: الذهابُ إلى صلاتها ماشياً أو راكباً، لكنَّ المشيَ إليها أفضلُ، وكذا سائر الأعمال الصالحة إلا الحج والعمرة فالركوبُ أفضلُ.
          (وَقَولُ اللهِ ╡ ذِكْرُهُ) بجرِّ ((قول)) عطفاً على((المشي)) وبرفعِه استئنافاً أو عطفاً على ((بابُ)).
          (({فَاسْعَوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة:9])): أي: فامضوا كما مرَّ؛ لأنَّ السعيَ يُطلق على الذهاب وعلى العدوِ، والمرادُ الأولُ لما في الحديث الآتي في الباب وغيره: ((فلا تأتوها وأنتم تسعَون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينةُ)) ففي إيراد المصنفِ له إشارةٌ إلى أنَّ السعيَ المأمورَ به في الآية غيرُ السعيِ المنهيِّ عنه في الحديث؛ لأنَّ المرادَ به فيه العدوُ، لمقابلته بالمشي.
          قال شيخُ الإسلام: نعم إنْ ضاق الوقتُ ندب العدوُ، بل قال المحبُّ الطبري: إنه يجب إنْ لم يدركِ الجمعةَ إلا به.
          ومثلُه في ابن حجر والرمليِّ، وزاد: أو إنْ لم يلقَ به، ويُحتمل خلافُه أخذاً مِن أنَّ فقْدَ بعضِ اللباس اللائق به عذرٌ إلا أنْ يفرقَ. انتهى
          (وَمَنْ قَالَ) عطف على ((المشي)): أي: وبابُ مَن قال في تفسيرِ {فَاسْعَوا إلَى ذِكْرِ اللهِ} (السَّعيُ: العَمَلُ والذَّهابُ، لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَسَعَى لَهُا}) أي: للآخرةِ
          قال البرماوي: تبعاً للكرماني: {سَعَى لَهُا}؛ أي: عملَ لها وذهب لها، وهو راجعٌ لسَعَى المعدَّى بـ(({إلَى})) لا تفاوتَ بينهما إلا بإرادة الاختصاصِ والانتهاء.
          ({سَعْيَهَا} [الإسراء:19]) قال البيضاوي: أي: حقَّها مِنَ السعي، وهو الإتيانُ بما أمر، والانتهاء عما نهى، لا التقربُ بما يخترعون بأرائهم، وفائدةُ اللام: اعتبارُ النية والإخلاص.
          وقال ابن المنير: في ((الحاشية)): لمَّا قابل اللهُ بين الأمرِ بالسعي والنهي عن البيع دلَّ على أنَّ المرادَ بالسعي العملُ الذي هو الطاعةُ؛ لأنه هو الذي يُقابَلُ بسعي الدنيا كالبيع والصناعة.
          والحاصل: أنَّ المأمورَ به سعيُ الآخرة، والمنهيَّ عنه سعيُ الدنيا.
          وفي ((الموطأ)) عن مالكٍ أنه سأل ابنَ شهابٍ عن هذه الآيةِ فقال: كان عمرُ يقرؤها: ▬إذا نودي للصلاة فامضوا↨، وكأنه فسَّرَ السعيَ بالذهاب.
          قال مالكٌ: ليس السعيُ الاشتداد، وإنما السعيُ العملُ؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [البقرة:205] وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس:8].
          وقال ابن الملقنِ: السعيُ في لسان العرب: الإسراعُ في المشي، والعملُ أيضاً.
          (وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ☻: يَحْرَمُ البَيْعَ حِينئِذٍ) أي: حين: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة:9] بعد جلوس الخطيبِ على المنبر، ومثلُ البيعِ غيرُه مما يشغل عن الصلاة، وهذا التعليقُ وصله ابن حزمٍ من طريق عكرمةَ عن ابن عباسٍ بلفظ: لا يصلح البيعُ يوم الجمعة حين يُنادى للصلاة، فإذا قُضيتِ الصلاةُ فاشترِ وبعْ، ورواه ابنُ مردويه من وجهٍ آخرَ عن ابن عباسٍ مرفوعاً.
          قال في ((الفتح)): وإلى القولِ بالتحريم ذهب الجمهورُ، وابتداؤه عندهم مِن حين الأذانِ بين يدي الإمام؛ لأنه الذي كان في عهد النبيِّ صلعم، وهو الذي يحرم عندَه البيعُ، وأمَّا الذي عند الزوالِ فيجوزُ عندهم البيعُ فيه مع الكراهة، وعن الحنفية: يُكرهُ مطلقاً ولا يحرمُ، وهل يصحُّ البيعُ مع القول بالتحريم؟ قولان مبنيان على أنَّ النهيَ هل يقتضي الفسادَ مطلقاً أو لا؟ انتهى / .
          وأقول: الذي رجحَه فقهاؤنا: أنَّ البيعَ يصحُّ وإنْ حرم؛ لأنَّ الحرمةَ لمعنى خارجٍ غيرِ لازمٍ؛ كالصلاة في المغصوب، وبيعِ العنب لمنْ يعلم اتخاذَه خمراً.
          وقال الكرماني: قال الفقهاءُ: يحرمُ لكنْ يصحُّ؛ لأنَّ النهيَ راجعٌ إلى أمرٍ مقارنٍ للعقد لا إلى نفس العقدِ، ولا إلى أمرٍ داخلٍ فيه ولازمٍ له. انتهى.
          وقال المالكية: لا ينعقدُ ماعدا النكاح والهبة والصدقة، أمَّا في النكاح فللاحتياطِ في الفروج، وأمَّا في الهبة والصدقة فللحوقِ المضرةِ للموهوب له. واستُثنيَ مِن تحريم البيعِ ما لو احتاج إلى ماءِ طهارتِه، أو إلى ما يستر عورتَه، أو اضطرَّ إلى قوتٍ.
          وقال ابن رجبٍ: القولُ بأنَّ البيعَ مردودٌ محكيٌّ عن القاسم بن محمدٍ وربيعةَ ومالكٍ ومجاهد، وهو مذهبُ الليثِ والثوري وإسحاقَ وأحمدَ وغيرِهم من فقهاء أهل الحديثِ، وخالف فيه أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأصحابهما، وقالوا: البيعُ غيرُ مردودٍ.
          وقال ابن الملقنِ: قال أبو حنيفةَ، وصاحباه، وزفرُ، والشافعيُّ: يجوز مع الكراهةِ، ولعلَّ المرادَ بها: التحريمُ، وقال أحمدُ، وداود، والثوري، ومالكٌ في روايةٍ عنه: لا يصحُّ، وهو قولُ أكثرِ المالكية، ثم قال: وقال ابن قدامةَ: لا يحرم غيرُ البيع من العقود، كالإجارة والصلحِ والنكاح، وقيل: يحرم؛ لأنه عقدُ معاوضةٍ فأشبهَ البيعَ، وبالأول قال ابنُ حزمٍ، ثم قال: لا يحرم نكاحٌ ولا إجارةٌ ولا سَلَمٌ ولا ما ليس بيعاً.
          (وقَالَ عَطَاءُ) أي: ابنُ أبي رباحٍ (تَحْرُمُ الصِنَاعَاتُ كُلُّهَا) وهذا التعليقُ وصله عبدُ بن حميدٍ في ((تفسيره)) بلفظ: إذا نُودي بالأولى حرمَ اللهو والبيع والصناعاتُ كلُّها والرقادُ، وأنْ يأتيَ الرجلُ أهلَه، وأنْ يكتبَ كتاباً، وبهذا قال الجمهورُ أيضاً.
          (وقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العينِ (عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهْوَ مُسَافِرٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ) أي: يحضرَ الجمعةَ.
          قال في ((الفتح)): لم أرَ هذا التعليقَ من رواية إبراهيمَ، وذكره ابنُ المنذر عن الزهري وقال: إنه اختُلفَ عليه فيه، فروي عنه هكذا، وروي عنه مثلُ قولِ الجماعة: لا جمعةَ على مسافرٍ.
          قال ابن المنذرِ: وهو كالإجماعِ، ويمكنُ حملُ قولِ الزهري: لا جمعةَ على مسافرٍ؛ أي: على سبيل الوجوبِ، وقولُه: فعليه أنْ يشهدَها؛ أي: على سبيل الاستحباب أو على صورةٍ مخصوصةٍ، وهي ما إذا اتفق حضورُه في موضع إقامتِها فسمع النداءَ لها، لا أنها تلزم المسافرُ مطلقاً، حتى يحرمَ عليه السفرُ قبل الزوالِ من بلدةٍ اجتاز بها، وكأنَّ هذا ترجحَ عند البخاري،ويتأيدُ بعمومِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} فإنه عامٌّ في المقيم والمسافر.
          ونقل القسطلاني عن المالكيَّةِ أنها تجب عليه إذا أدركَ صوتَ المؤذن قبل مجاوزةِ الفرسخ.
          وقال ابنُ الملقِّن: السفرُ بعد الزوال حرامٌ، إلا أنْ تمكنَه الجمعةُ في طريقه، أو يتضرَّرَ بتخلفِه عن الرفقة، وبه قال مالكٌ وأحمدُ وداود، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمرَ وعائشةَ وابن المسيب، وقال أبو حنيفةَ: يجوز، والصحيحُ عند الشافعي أنَّ ما قبل الزوالِ كذلك، وجوزه مالكٌ قبله، وهو مذهبُ عمرَ والزبير وأبي عبيدةَ وابنِ عمرَ والحسن وابنِ سيرين.
          وأمَّا السفرُ ليلتَها فهو مكروهٌ عندنا، لكنه جائزٌ عندنا وعند كافةِ العلماء، إلا ما حُكيَ عن النخعي مِن أنه قال: لا يسافرُ بعد دخول العشي مِن يوم الخميس حتى يصليَها، وهو باطلٌ لا أصلَ له؛ كما قاله النووي، وإنْ روى ابنُ أبي شيبةَ بسنده / عن عائشةَ أنها قالت: إذا أدركتْك ليلةُ الجمعة فلا تخرجْ حتى تصليَ الجمعةَ. انتهى كلامُ ابنِ الملقن.
          وأخذه العينيُّ وقال رادًّا على النووي: بل له أصلٌ صحيحٌ، وذكر روايةَ ابنِ أبي شيبةَ عنها، فانظرْ مِنْ أين ثبت أنَّ له أصلاً صحيحاً مع قوله: وإنْ روى ابنُ أبي شيبةَ... إلخ؟ فتدبرْ.