الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فرض الجمعة

          ░1▒ (بَابُ فَرْضِ الجُمُعَةِ) أي: باب بيان افتراضِ صلاةِ يوم الجمُعة أو لا حذف، والجمُعة: عبارة عن صلاتها.
          (لِقَولِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ للصَّلَاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ} [الجمعة:9]) كذا للأكثر، وأكمل بقيةَ الآية أبو ذرٍّ وكريمة، واستدلالُ المصنف بهذه الآية على فرضية الجمعة سبقَه إليه الشافعي في ((الأم)) وكذا استدلَّ بحديث أبي هريرةَ الآتي، ثم قال: فالتنزيلُ ثم السنةُ يدلان على إيجابها، قال: وعُلِمَ بالإجماع أنَّ يومَ الجمعة هو الذي بين الخميس والسبت.
          وقال موفقُ الدين: الأمرُ بالسعي يدلُّ على الوجوب، إذ لا يجب السعيُ إلَّا إلى واجبٍ.
          قال في ((الفتح)): واختلِفَ في وقت فرضيتها، فالأكثرُ على أنها فرضَتْ بالمدينة، وهو مقتضَى ما تقدمَ أنَّ فرضيتَها بالآية المذكورة، وهي مدنيةٌ.
          وقال الشيخ أبو حامد: فرضت بمكةَ، وهو غريبٌ، وعلى القول به فقيل: كان ليلة الإسراء، ومنه يُعلم فرضيتها.
          وأقول: تقدمَ أنَّ الفقهاءَ على ترجيحهِ.
          وقال الزينُ ابن المنيِّر: وجهُ الدَّلالة من الآية: مشروعيةُ النِّداء لها؛ إذالأذان من خواص الفرائضِ، وكذا النهيُ عن البيع؛ لأنه لا ينهَى عن المباح _يعني: نهي تحريمٍ_ إلا إذا أفضَى إلى ترك واجبٍ، ويضَاف إلى ذلك: التَّوبيخُ على قطعها.
          وقولُه: (({إِذَا نُودِيَ})): {إِذَا} شرطيةٌ، وجملة: {نُوْدِيَ} شرطُها، وهو العاملُ فيها / عند المحقِّقين، والمشهورُ أنَّ العاملَ فيها جوابُها كقوله: {فَاسْعَوا} هنا، والمرادُ بالنِّداء في الآية الأذانُ عند قعودِ الإمام على المنبر للخطبةِ.
          قال العينيُّ: ويدلُّ لذلك ما روى الزهريُّ عن السَّائب بن يزيد: كان لرسول الله صلعم مؤذنٌ واحدٌ، لم يكنْ له مؤذنٌ غيره، وكان إذا جلس رسولُ الله صلعم على المنبر أذن على المسجدِ، فإذا نزلَ أقام الصَّلاةَ، ثم كان أبو بكرٍ كذلك وعمرُ كذلك، فلما كان عثمانُ وكثر الناسُ وتباعدت المنازل زاد أذاناً، فأمر بالتَّأذين الأول على دارٍ له بالسوق يقال له: الزوراء، فكان يُؤذَّن له عليها، فإذا جلس عثمانُ على المنبر أذَّن مؤذنُه الأول، فإذا نزل أقام الصلاةَ، فلم يعبْ ذلك عليه.
          وأقول: الذي ذكره غيره أنَّ مؤذنَه صلعم كان يؤذِّنُ بين يديهِ في المسجد، فراجع ((المواهب)) وغيرها.
          وقوله: (({مِنْ يَومِ الجُمُعَةِ})): بيان لـ{إِذَا}، وقيل: {مِن} بمعنى: في؛ كقوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر:40].
          قال البيضاوي: وأولُ جمعةٍ جمعها رسولُ الله صلعم لمَّا قدم المدينةَ نزل قباء وأقام بها أربعةَ أيام إلى الجمعة، ثم دخل المدينةَ وصلى الجمعةَ في دارٍ لبني سالمِ بن عوفٍ. انتهى.
          وقال ابنُ إسحاق: لمَّا قدم عليه الصلاة والسلام المدينةَ أقام بقباء في بني عمرِو بن عوفٍ يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسَّسَ مسجدهم، ثم خرج يومَ الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالمٍ، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي نافلة.
          قال ابنُ فرحون: وهو اليومُ خراب.
          وقوله: (({فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ})): قال البيضاوي: فامضوا إليه مسرعينَ قصداً، فإنَّ السعيَ دون العدْوِ، والذكرُ: الخطبةُ، وقيل: الصلاةُ، وقيل: هما معاً.
          (({وَذَرُوا الْبَيْعَ})): أي: اتركوا المعاملةَ والتشاغلَ عن الصَّلاة، فنبَّه بالبيع على غيره، والنهيُ للتحريم، وتحريمُ المباح لا يكون إلا لواجبٍ، لكنْ يصحُّ البيعُ؛ لأنَّ النَّهيَ لمعنى خارجٍ غير لازم، وهو مذهَبُ الشَّافعية والحنفية، وقال مالكٌ وأحمدُ والظَّاهرية: البيع باطلٌ.
          {ذَلِكُمْ} أي: السَّعي إلى ذكر الله، قاله البيضَاوي، والأَوْلى أنْ يشملَه ترك البيع.
          {خَيْرٌ لَكُمْ} أي: أفضلُ لكم وأربحُ من المعاملة، فإنَّ نفعَ الآخرة خيرٌ وأبقى.
          {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: الخيرَ والشرَّ الحقيقيين، أو إنْ كنتم مِنْ أهلِ العلم.
          وقوله: ({فَاسْعَوا}: فَامْضُوا) هكذا ثبتَ لأبي ذرٍّ عن الحموي، وسقط لغيره، وفي بعض النسخ: <{فَاسْعَوا}، قال: فامضوا> فيكون ((امضوا)) تفسيراً لـ{اسْعَوا} للتنبيه على أنه ليس المرادُ العدْوَ الشديدَ بل القصدُ في السَّعي، وليس مرادُه أنه قرئ: ((فامضوا)) بدل: {فَاسْعَوا} نعم هي قراءةُ عمر بن الخطاب كما يأتي في التفسير.
          وعن ابن عمرَ: ما سمعتُ عمر يقرؤها قط إلا: ▬فامضوا إلى ذكرِ الله↨، ويقول: لو قرأتُها: {فَاسْعَوا} لسعيتُ حتى يسقطَ ردائي.
          وقال الحسنُ: ليس المرادُ السعيَ على الأقدام، فلقد نهوا أنْ يأتوا المسجدَ مسرِعين، بل عليهم السكينةُ والوقارُ، فالمراد: السعيُ بالقلوبِ والنية والخشوعِ.
          وعن الشافعي: السعيُ في هذا الموضع: العملُ، فإنَّ اللهَ تعالى يقول: {إنَّ سَعْيَكُمْ لشَتَّى} [الليل:4].
          وقال ابن الملقِّن: وفي هذه الآية خمسُ فوائدَ: النداءُ للجمعة، والأمرُ بالسَّعي، والنهيُ عن البيع، وهو تنبيهٌ على كلِّ ما يشغله مما هو في معناه، ووجوبِ الخطبة؛ لأنَّ الذكرَ الذي يحضره السَّاعي هو في وقت إتيانه الخطبة، والخطبةُ غيرُ محصورٍ بالذكر فيها.
          والحاصل: أنَّ / الآيةَ كالحديث الآتي يدلَّان على فرضيةِ صلاة الجمعةِ، وتقدَّم وجهُ دلالةِ الآية، وأما الحديثُ فللتعبير فيه بالفرضِ؛ لأنه للإلزام وإنْ أُطلقَ على غيره كالتقدير، كذا قالوا، لكنْ فيه أنهم قالوا: فرض عليهم؛ أي: تعظيمُه، وهذا لا يلزم منه فرضيةُ الصَّلاة، فتدبرْ.
          وفيه أحاديثُ أخر كثيرةٌ كحديث جابرٍ وأبي سعيدٍ الخدري الذي رواه البيهقي عنهما قالا: خطبَنا رسولُ الله صلعم، الحديث، وفيه: ((واعلمُوا أنَّ اللهَ تعالى فرضَ عليكم صلاةَ الجمعة)) وكحديث حفصةَ الذي أخرجه النَّسائي عنها، عن النَّبي صلعم أنه قال: ((رواحُ الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ)).
          وكحديث جابرِ بن عبد الله الذي رواه ابنُ ماجه عنه: أنَّ النبيَّ صلعم خطبَهم فقال في خطبته: ((إنَّ اللهَ فرضَ عليكم الجمُعةَ في مقامي هذا في يومِي هذا في شهري هذا مِن عامي هذا إلى يوم القيامة فمَنْ تركها في حياتي أو بعدي، وله إمامٌ عادلٌ أو جائر استخفافاً بها أو جُحوداً لها فلا جمعَ الله شملَه، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاةَ له ولا زكاةَ له ولا حجَّ له ولا صومَ له ولا بركةَ حتى يتوبَ، فمَن تاب تابَ الله عليه)) وفي إسنادِهِ ضعفٌ واضطرابٌ.
          وكحديث مسلمٍ عن عبد الله بن عمر وأبي هريرةَ أنهما سمعا رسولَ الله صلعم يقول على أعوادِ منبره: ((لينتهينَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجمُعاتِ أو ليختمنَّ الله على قُلوبهم ثم ليكوننَّ من الغافلين)) وكحديث أحمدَ وأبي داود والترمذي والنَّسائي وابنِ حبَّان وابنِ ماجه، من حديث ابن أبي الجعد الضَّمري _وكانت له صحبةٌ_ عن النبي صلعم أنه قال: ((مَنْ ترك الجمُعةَ تهاوناً ثلاثَ مراتٍ طُبع على قلبهِ)) قال الترمذيُّ: حسن.
          وكحديث أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ عن طارق بن شهابٍ عن النبي صلعم أنه قال: ((الجمعةُ حقٌّ واجبٌ في جماعة)) وفي روايةٍ: ((واجبٌ على كلِّ مسلمٍ إلا أربعة: عبدٌ مملوكٌ أو امرأةٌ أو صبيٌّ أو مريض)).
          قال أبو داود: طارق بنُ شهاب رأى النبيَّ صلعم ولم يسمعْ منه شيئاً.
          قيل: وأجمعتِ الأمَّةُ على فرضيتها على الرجالِ بشرائطها، فيكفرُ جاحدُها كما في ((العناية)) و((الدراية)) و((البرهان)) و((فتح القدير)) من كتبِ الحنفية.
          ونقلَ في ((شرح رسالة ابن أبي زيد)) عن الفاكهَاني أنه قال: لا خلافَ بين الأئمَّة أنَّ الجمعةَ واجبةٌ على الأعيان. انتهى.
          وقال ابنُ رجب: هذا قولُ جمهور العلماء، ومنهم مَنْ حكاهُ إجماعاً كابن المنذر، وشذَّ مَن زعمَ أنها فرضُ كفايةٍ من الشافعية، وحكاه بعضُهم قولاً للشافعي، وأنكرَ ذلك عامَّةُ أصحابه، حتى قالتْ طائفةٌ منهم: لا تحلُّ حكايتُه عنه، وحكاية الخطَّابي لذلك عن أكثرِ العلماء وهْمٌ منه، ولعلَّه اشتبه عليه الجمعةُ بالعيد.
          وحُكي عن بعضِ المتقدِّمين أنَّ الجمعةَ سُنَّةٌ، وروى ابنُ وهبٍ عن مالكٍ أنَّ الجمعةَ سنةٌ، وحملها ابن عبد البرِّ على أهل القرى المختلف في وجوبِ الجمعة عليهم خاصةً دون أهلِ الأمصَار، ونقلَ حنبل عن أحمدَ أنه قال: الصلاةُ _يعني: صلاة الجمعة_ فريضةٌ، والسَّعيُ إليها تطوع سنةٌ مؤكدةٌ، وهذا إنما هو توقفٌ عن إطلاق الفرض على إتيان الجمعة، وأما الصلاةُ نفسُها فقد صرح بأنها فريضةٌ، وهذا يدلُّ على أنَّ ما هو وسيلةٌ إلى الفريضة ولا يتمُّ إلا به لا يطلق عليه اسمُ الفريضةِ؛ لأنه وإنْ كان مأموراً به فليس مقصُوداً لنفسه بل لغيره. انتهى.
          وقال الرمليُّ: والجديدُ أنَّ الجمعةَ ليست ظهراً مقصوراً بل صلاةً مستقلةً؛ لأنه لا يغني عنها، ولقول عمرَ: الجمعةُ ركعتان تمامٌ غير قصرٍ، على لسان / نبيِّكم {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]. كما رواه أحمدُ وغيره، وقال في ((المجموع)): إنه حسنٌ، والقديم: أنها ظهرٌ مقصورةٌ. انتهى.
          وقال العينيُّ: وأما الإجماعُ فإنَّ الأمةَ قد أجمعتْ على ذلك، مِن لدُن رسولِ الله صلعم إلى يومنا هذا على فرضيتها من غيرِ إنكارِ أحدٍ، لكن اختلفوا في أصل الفرض في هذا الوقت، فقال الشافعيُّ في الجديد، وزفر ومالك وأحمد ومحمد في روايةٍ: فرضُ الوقت الجمعةُ، والظهرُ بدلٌ عنها، وقال أبو حنيفةَ وأبو يوسف والشافعيُّ في القديم: الفرضُ هو الظهر، وإنما أمر غير المعذور بإسقاطهِ بأداء الجمعة، وقال محمدٌ في روايةٍ: فرضه أحدهما غير عين، والتَّعيين إليه.
          وفائدةُ الخلاف تظهر في حرٍّ مقيمٍ أدَّى الظهرَ في أول وقته يجوز مطلقاً، حتى لو خرج بعد أداء الظهر إليها أو لم يخرجْ لم يبطلْ فرضُه، لكنْ عند أبي حنيفة: يبطلُ بمجرد السعي مطلقاً، وعندهما: لا يبطلُ إلا إذا أدرك، وعند الشافعيِّ ومَن معه: لا يجوز ظهرُه سواء أدرك الجمعةَ أو لا، خرج إليها أو لا، ومعنى يجوز؛ أي: يصحُّ، ولكنه حرامٌ.
          قال الشرنبلالي في ((شرح نور الإيضاح)): وإنما أكثرنا في الاستدلال لما سمع عن بعضِ الجهلة أنهم ينسبونَ إلى مذهب الحنفيَّة عدمَ افتراضها، ومنشأُ غلطِهم ما ذكره في القُدوري: ومن صلى الظهرَ يوم الجمعة في منزله ولا عذرَ له كرهَ له ذلك وجازت صلاتُه، وإنما أراد حرم عليه وصحَّتِ الظهرُ، فالحرمةُ لترك الفرض الذي هو الجمعةُ، وصحتِ الظهرُ لوجود وقت أصل الفرض، ولكنه موقوفٌ، فإذا سعى إلى الجمعة بطل ظهرُه.