الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الخطبة قائمًا

          ░27▒ (بَابٌ: الْخُطْبَةُ) بضم الخاء (قَائِماً) بتنوين ((بابٌ)) فالخطبة مبتدأ، والخبر محذوف، و((قائماً)) حال من فاعله، والأصلُ: الخطبةُ يخطبها الخطيبُ قائماً، والأولى إضافة ((باب)) إليها، فـ((قائماً)) خبر يكون مقدرة أو حال حذف فاعلها وعاملها، والجملة: حال من الخطبة، والتقدير: باب الخطبة يكون الخطيبُ فيها قائماً، أو يخطبُ الخطيبُ فيها قائماً، وعلى كلٍّ ففيه تكلُّفٌ، ويجوزُ أن يقدر: باب مشروعيَّة الخطبة من الخطيبِ قائماً، فتدبَّر، وأل في: ((الخطبة)) جنسيَّةٌ فتصدَّق بالخطبتين.
          (وَقَالَ أَنَسٌ) أي: ابن مالكٍ ☺، مما وصلهُ المصنِّف في الاستسقاءِ مطولاً (بَيْنَا النَّبِيُّ صلعم يَخْطُبُ قَائِماً) أي: وجوباً إذ شرطُ صحَّة الخطبة: القيامُ للقادر.
          قال / ابن المنذِرِ: الذي حمل عليه جمهورُ أهل العلم من الأمصار ذلك، ونقل غيرهُ عن أبي حنيفَةَ: أنَّ القيام في الخطبة سنَّةٌ وليس بواجبٍ، وهو المصرَّح به في مذهبهم، وفي روايةٍ عن مالك: أنَّه واجبٌ، وتصحُّ الخطبة بدونه، لكنَّه مسيءٌ بتركه.
          قال القاضي عياض: المذهبُ وجوبه من غير اشتراطٍ، وقال المازريُّ: ويشترطُ القيام لها.
          وقال إمام المالكيَّةِ خليل: وفي وجوبِ قيامِهِ لها تردُّدٌ.
          واستدلَّ القائلُ بالسُّنيَّة بحديثِ أبي سعيدٍ الآتي في الباب بعدَهُ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم جلسَ ذات يومٍ على المنبر))، وجلسنا حوله، وبحديثِ سهلٍ الماضي، فإنَّه قال فيه: ((أجلسُ عليهنَّ)).
          وأُجيبَ عن الأول: بأنَّه كان في غير خُطبةِ الجمعة.
          وعن الثَّاني: باحتمال أنَّه أراد الجلوس أوَّلَ ما يصعدُ أو بين الخطبتين، واستدلَّ الجمهورُ بقوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11]، وبحديث جابرِ بن سمُرة عند مسلمٍ وأبي داودَ والنَّسائي: ((أنَّ رسول الله صلعم كان يخطُبُ قائماً ثمَّ يجلسُ ثمَّ يقومُ فيخطبُ قائماً))، فمَن نبَّأك أنَّه كان يخطبُ جالساً فقد كذَبَ، فقد والله صلَّيتُ معه أكثر من ألفَي صلاةٍ.
          قال العينيُّ: وهو محمولٌ على المبالغةِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام ما صلَّى هذا المقدارَ من الجُمَع.
          وحديث مسلمٍ أصرحُ في المواظبةِ من حديث ابن عُمر، لكنه ليس على شرط المصنِّف، فلذا اقتصرَ على حديث ابن عمر، وبحديث كعب بن عجْرة عنده أيضاً: أنَّه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطُبُ قاعداً، فأنكرَ عليه وتلى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً}، وفي روايةِ ابن خُزيمة: ما رأيتُ يوماً كاليوم قطُّ إمام يؤمُّ المسلمين يخطبُ وهو جالسٌ، يقول ذلك مرتين، وأخرج ابن أبي شيبةَ عن طاوسٍ قال: ((خطبَ رسولُ الله صلعم قائماً))، وأبو بكر وعمر وعثمان، فبالمواظبة على ذلك وبمشروعيَّةِ الجلوس بينهما، فلو كان القعودُ مشروعاً فيهما لما احتيجَ إلى الفصل بالجلوس، وأما من نقل عنه القعودُ كمعاوية فكان معذوراً، مع أنَّه مرسلٌ، وهو أوَّل من جلس فيهما على المنبر، فعند ابن أبي شيبة: أنَّ معاوية إنما خطَبَ قاعداً لما كثُرَ شحمُهُ ولحمُه وبدن.
          ولا دليل لمن احتجَّ به بأنه لو كان القيام شرطاً لما صلى من أنكره مع القاعد لجواز أنَّه صلَّى معه خَشيةَ الفتنة، أو أنَّه قعد باجتهادٍ كما قالوا في إتمام عثمان الصَّلاة في السَّفر، مع أنَّ ابن مسعودٍ أنكرَ عليه وصلَّى خلفه متمًّا، واعتذر بأنَّ الخلاف شرٌّ.
          تنبيه: الخطبتان شرطٌ لصحَّة الجمعة لا بدَّ منهما، مع اشتمَالهما على خمسة أركانٍ: حمدُ الله، والصَّلاة والسَّلامُ على رسولِ الله صلعم، والوصيَّةُ بالتَّقوى فيهما، وقراءةُ آيةٍ في إحداهما، والدُّعاء للمُؤمِنين والمؤمنات في الثَّانية، واكتفَى أبو حنيفة بتسبيحةٍ واشترطَ صاحبَاهُ طولها.
          وقال ابنُ الملقِّن: جماعةُ الفقهاء على أن الخطبةَ من شرط الجُمعةِ لا تصحُّ إلَّا بها، ومتى لم يخطُبْ الإمام صلَّى أربعاً، وقال ابنُ المنذر: شذَّ الحسنُ فقال: تجزئُهُم جمعتهم، خطبَ الإمامُ أم لا، وذكر عبد الوهَّاب أنَّه قولُ أهل الظَّاهر، وحكاهُ ابن الماجشون عن مالكٍ، ويردُّ قولهم الاتباع لفعله عليه الصَّلاة والسَّلام، ولو أجزأت الجمعةُ بغير الخطبة لبيَّنه، وقد قال الفاروقُ: إنما قُصِّرت الصَّلاةُ من أجل الخطبة، وقال سعيدُ بن جُبير: إن الخطبة جُعِلت مكان الرَّكعتين.