إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا

          6565- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ) هو ابنُ مُسَرْهد قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) الوضَّاح بن عبد الله اليشكريُّ (عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة (عَنْ أَنَسٍ ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ) ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”جمع الله“ بلفظ الماضي، والأوَّل هو المعتمدُ، وفي حديثِ أبي هريرة: «يجمعُ اللهُ النَّاس الأوَّلين والآخرينِ في صعيدٍ واحدٍ يُسْمِعُهم الدَّاعي، ويَنْفذُهُم البصرُ، وتدنُو الشَّمس من رؤوسهِم فيشتدُّ عليهم حرُّها» [خ¦3340] (فَيَقُولُونَ) من الضَّجرِ والجزعِ ممَّا هم فيه: (لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى) بالعين، ضمَّن «استشفعَ» معنى الاستعانة؛ يعني(1): لو استعنَّا على (رَبِّنَا) لأنَّ الاستشفاع طلب الشَّفاعة وهي انضمامُ الأدنى إلى الأعلى ليستعينَ به، على ما يرويهِ في رواية هشامٍ الدَّستَـُوائيِّ السَّابقة في «سورة البقرة» [خ¦4476] «إلى ربِّنا» (حَتَّى يُرِيحَنَا) بالحاء المهملة، من الإراحةِ، أي: يُخلِّصنا (مِنْ مَكَانِنَا) وما فيه من الأهوالِ، و«لو» هي المتضمِّنة للتَّمني والطَّلب فلا تحتاجُ إلى جوابٍ أو جوابها محذوفٌ (فَيَأْتُونَ آدَمَ) ◙ ، وقدَّموه لأنَّه الأوَّل‼ (فَيَقُولُونَ) له، بعثًا له على أن يشفع لهم: (أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ) زاد همَّامٌ في روايته الآتية _إن شاء الله تعالى_ في «كتاب التَّوحيد» [خ¦7440] «وأسكنكَ جنَّته وعلَّمك أسماء كلِّ شيءٍ» ووضْع «شيء» موضع أشياء، أي: المسمَّيات كقوله(2) تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[البقرة:31] أي: أسماء المسمَّيات (وَأَمَرَ المَلَائِكَةَ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”وأمر ملائكته“ (فَسَجَدُوا لَكَ) سجود خضوعٍ لا سجودَ عبادةٍ (فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا) حتَّى يُريحنا من مكاننَا هذا (فَيَقُولُ) آدم: (لَسْتُ هُنَاكُمْ) بضم الهاء وتخفيف النون، أي: لست في المكان والمنزل الَّذي تحسبوننِي، يريد به مقام الشَّفاعة (وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ) الَّتي أصابها وهي أكلُه من الشَّجرة الَّتي نُهي عنها، قاله تواضعًا واعتذارًا عن التَّقاعد عن الإجابةِ وإعلامًا بأنَّها لم تكن له (وَيَقُولُ) لهم: (ائْتُوا نُوحًا) ◙ ، وسقط «ويقول» لأبي ذرٍّ (أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ) أي: بعد آدم وشيث وإدريس، أو الثَّلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رُسلًا. نعم كان آدم مُرسلًا، وأُنزل على شيث الصُّحف وهو من علامات(3) الإرسال، أو رسالة آدم لبَنِيْه وهُم موحِّدون ليعلِّمهم شريعته، ورسالةُ نوح للكفَّار ليدعوهم إلى التَّوحيد (فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ) لهم: (لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ) وهي سؤاله ربِّه ما ليس له به علمٌ وهو قوله: {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي}[هود:45] (ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ) لهم: (لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ) زاد مسلمٌ: «الَّتي أصابَ فيستحيي من(4) ربِّه»، وفي رواية همَّامٍ(5): «إنِّي كذَبت ثلاث كذباتٍ» [خ¦7440]، وزاد شيبان(6) ”قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات:89]“ وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}[الأنبياء:63] وقوله لامرأته: أخبريه أنِّي أخوك. وهذه الثَّلاثة من المعاريض إلَّا أنَّها لمَّا كانت صورتها صورة الكذبِ أشفق منها (ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”كلَّم الله“ (فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ) لهم: (لَسْتُ هُنَاكُمْ) وسقط لأبي ذرٍّ قوله «فيقول: لستُ هنَاكم» (فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ) وهي أنَّه قتل نفسًا لم يُؤمر بقتلها (ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ) لهم: (لَسْتُ هُنَاكُمْ) ولم يذكر ذنبًا، لكن وقع في رواية أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ: «إنِّي عُبِدتُ من دونِ الله» رواه مسلمٌ (ائْتُوا مُحَمَّدًا صلعم ) وفي «كشف علوم الآخرة» للغزاليِّ: إنَّ بين إتيان أهل الموقف آدمَ وإتيانهم نوحًا ألف سنةٍ، وكذا بين / كلِّ نبيٍّ ونبيٍّ. قال في «الفتح»: ولم أقفْ لذلك على أصلٍ، ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيرادِ أحاديث لا أصلَ لها، فلا يُغترَّ بشيءٍ منها. انتهى.
          وتعقَّبه العينيُّ بأنَّ جلالة قدر الغزاليِّ تنافي ما ذكره، وعدمُ وقوفه‼ على أصلٍ لذلك لا يستلزمُ نفيَ وقوف غيره لذلك على أصلٍ، فإنَّه لم يُحِطْ علمًا بكلِّ ما وردَ حتَّى يدَّعي هذه الدَّعوى. انتهى.
          وأجاب في «انتقاض الاعتراض» بأنَّ جلالة الغزاليِّ لا تُنافي أنَّه يحسن الظَّنّ ببعضِ الكتب فينقل منها، ويكون ذلك المنقول غير ثابتٍ كما وقعَ له ذلك(7) في «الإحياء» في نقله من «قوت القلوب» كما نبَّه على ذلك غير واحدٍ من الحفَّاظ، وقد اعترفَ هو بأنَّ بضاعتَه في الحديث مُزْجاة. قال ابن حَجر(8): ولم أدَّعِ أنِّي أحطتُ علمًا، وإنَّما نفيتُ اطِّلاعي، وإطلاقه(9) في الثَّاني محمولٌ على تقييدِي في الأوَّل، والحكمُ لا يثبتُ بالاحتمال، فلو كان هذا المعترضُ _يعني: العينيَّ_ اطَّلع على شيءٍ من ذلك يخالفُ قولي لأبرزَه وتبجَّح به. انتهى.
          وقد ألهمَ الله تعالى النَّاس سؤال آدم ومَن بعدَه في الابتداء، ولم يُلهموا سؤالَ نبيِّنا محمَّدٍ صلعم مع أنَّ فيهم مَن سمع هذا الحديث منه صلعم ، وتحقَّقَ اختصاصَه بذلك إظهارًا لفضيلةِ نبيِّنا صلعم ورفعة منزلَته وكمالِ قُربه وتفضيلهِ على جميع المخلوقين.
          (فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) ما وقع عن سهوٍ وتأويلٍ، أو ما كان الأولى تركه، أو أنَّه مغفورٌ له غير مُؤاخذٍ لو وقع منه. قال رسولُ الله صلعم : (فَيَأْتُونِي) زاد في رواية معبدِ بن(10) هلالٍ المذكورة في «التَّوحيد» [خ¦7510] «فأقولُ: أنا لها أنا لها» (فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي) زاد همَّامٌ: «في دارهِ فيؤذن لي» [خ¦7440] أي(11): في دخول الدَّار وهي الجنَّة، وأضيفتْ إليه تعالى إضافة تشريفٍ (فَإِذَا رَأَيْتُهُ) تعالى (وَقَعْتُ) له، حال كونِي (سَاجِدًا) وفي رواية أبي بكرٍ عند أبي عَوَانة: «فآتي تحتَ العرش فأقعُ ساجدًا لربِّي» (فَيَدَعُنِي) في السُّجود (مَا شَاءَ اللهُ) زاد مسلمٌ: «أنْ يدعني»، وسقطتِ الجلالة الشَّريفة لأبي ذرٍّ، وفي حديثِ عبادةَ بن الصَّامت عند الطَّبرانيِّ: «فإذا رأيتهُ خررتُ له ساجدًا شكرًا له».
          (ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ) ولأبي ذرٍّ: ”ثمَّ يقال لي: ارفعْ“ (رَأْسَكَ) وفي رواية النَّضر بن أنسٍ عند أحمد: «أوحَى الله إلى جبريل أن اذهبْ إلى محمَّدٍ فقلْ له: ارفَعْ رأسَكَ» (سَلْ تُعْطَهْ) بغير واو ولا همز(12) (قُلْ يُسْمَعْ) بغير واو أيضًا. نعم الَّذي في «اليونينيَّة»: ”وقل“ بإثباتها (وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ) أي: تُقبل شفاعتك (فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي) وفي رواية ثابت عند أحمد: «بمحامدَ لم يحمدْه بها أحدٌ قبلِي، ولا يحمدُهُ أحدٌ بعدِي» (ثُمَّ أَشْفَعُ) في الإراحةِ من كرب الموقفِ، ثمَّ في الإخراج من النَّار بعد التَّحوُّل من الموقف(13) والمرورِ على الصِّراط وسقوطِ مَن يسقطُ(14) حينئذٍ في النَّار (فَيَحُدُّ لِي) بفتح التَّحتية وضم الحاء المهملة، أي: يبيِّن لي كلَّ طورٍ من أطوار الشَّفاعة (حَدًّا) أقفُ عنده، فلا أتعدَّاه مثل أن يقول: شفَّعتك فيمَن أخلَّ بالجماعة، ثمَّ فيمَن أخلَّ بالصَّلاة، ثمَّ فيمَن شرب الخمر‼، ثمَّ فيمَن زنى، وعلى هذا الأسلوب قاله في «شرح المشكاة» عن التُّوربشتيِّ. قال في «الفتح»: والَّذي يدلُّ عليه سياق الأخبار أنَّ المراد به: تفصيلُ مراتبِ المخرجين في الأعمالِ الصَّالحة كما وقعَ عند أحمدَ عن يحيى القطَّان، عن سعيد بنِ أبي عَرُوبة، عن قتادة في هذا الحديثِ بعينه (ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ) حال كوني (سَاجِدًا مِثْلَهُ) أي: مثل الأوَّل (فِي) المرَّة (الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ) بالشَّكِّ من الرَّاوي (حَتَّى) أقول: يا ربِّ (مَا بَقِيَ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ما يبقى“ (فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ) فيها (القُرْآنُ، وَكَانَ) بالواو، ولأبي ذرٍّ: ”فكان“ (قَتَادَةُ) بن دِعامة (يَقُولُ عِنْدَ هَذَا) القول وهو مَن حبسَهُ القرآن: (أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الخُلُودُ) بنحو قولِ الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}[النساء:48].
          والحديثُ سبق في أوَّل «سورة البقرة» [خ¦4476].


[1] في (د): «بمعنى».
[2] في (د): «لقوله».
[3] في (س): «علامة».
[4] «من»: ليست في (د).
[5] لفظ رواية همام: «ويذكر ثلاث كلمات كذبهن».
[6] في (ب) و(س): «سفيان»، والحديث في [3358] من طريق حماد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة.
[7] «ذلك»: ليست في (د).
[8] «قال ابن حجرٍ»: ليست في (ع) و(ص).
[9] قوله «وإطلاقه»: من «انتقاض الاعتراض» وبه يظهر وجه الكلام.
[10] في (ب) و(س): «سعيد بن أبي».
[11] «أي»: ليست في (د).
[12] في (د): «همزة».
[13] في (ع): «الوقوف».
[14] في (د): «سقط».