إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب الرجاء مع الخوف

          ░19▒ (باب) استحباب (الرَّجَاءِ مَعَ الخَوْفِ) فلا يقتصرُ على أحدِهما دونَ الآخر، فربَّما يفضِي الرَّجاء إلى المكر، والخوفُ إلى القنوطِ، وكلٌّ منهما مذمومٌ، وقد روِّينا عن أبي عليٍّ الرُّوْذبارِي، أنَّه قال: الخوف والرَّجاء كجناحي الطَّائر إذا استويا استوى الطَّير وتمَّ طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النَّقص، وإذا ذهبا صارَ الطَّائر في حدِّ الموت. انتهى. فمتى استقام العبدُ في أحوالهِ استقامَ في سلوكهِ في طاعاتِهِ(1) باعتدالِ رجائهِ وخوفهِ، ومتى قصَّر في طاعاتهِ ضَعُف رجاؤه ودنا منه الاختلال، ومتى قلَّ خوفُه وحذرُه من مفسداتِ الأعمال تعرَّض للهلاكِ، ومتى عُدِم الرَّجاء والخوفُ تمكَّن منه عدوُّه وهواهُ وبَعُد عن حزبِ مَنْ حفظَهُ ربُّه وتولَّاه(2)، وبذلك عُلم وجه الشَّبه(3) بينهما وبين جناحَي الطَّائر.
          وقال بعضُهم: المؤمنُ يتردَّد بين الخوف والرَّجاء لخفاء السَّابقة، وذلك لأنَّه تارةً ينظر إلى عيوبِ نفسه فيخاف، وتارةً ينظرُ إلى كرم الله فيرجو(4)، وقيل: يجبُ أن يزيدَ خوف العالم على رجائهِ؛ لأنَّ خوفَه يزجرهُ عن المناهِي ويحملُه على الأوامرِ، ويجبُ أن يعتدلَ خوف العارفِ ورجاؤه؛ لأنَّ عينَه ممتدَّةٌ إلى السَّابقة، ورجاء المحبِّ يجبُ أن يزيدَ على خوفهِ؛ لأنَّه على بساطِ الجمال والرَّجاء بالمدِّ، وهو تعليقُ القلبِ بمحبوبٍ من جلبِ / نفعٍ أو دفع ضررٍ(5) سيحصلُ في المستقبل، وذلك بأن يغلب على القلب الظَّنُّ بحصولهِ في المستقبل(6)، والفرقُ بينه وبين التَّمني _وهو طلبُ ما لا مَطمع في وقوعهِ، كـ : لَيْتَ الشَّبابَ يعودُ_ أنَّ التَّمنِّي يُصاحبه الكسل، ولا يسلكُ صاحبه طريقَ الجهد والجدِّ في الطَّاعات، وبِعَكْسِهِ صاحب الرَّجاء فإنَّه يسلُك طريقَ ذلك، فالتَّمنِّي معلولٌ والرَّجاء محمودٌ، ومن علامتِهِ حسنُ الطَّاعة. قال حجَّة الإسلامِ: الرَّاجِي من بثَّ بذرَ الإيمان، وسقاهُ بماءِ الطَّاعات ونقَّى القلبَ من(7) شوكِ المهلكاتِ، وانتظرَ من فضلِ الله أنْ ينجيهُ من الآفاتِ، فأمَّا المنهمكُ في الشَّهوات منتظرًا للمغفرةِ فاسم المغرورِ(8) به أليقُ وعليه أصدقُ، وأمَّا الخوفُ فهو فزعُ القلب من مكروهٍ يناله، أو محبوبٍ يفوته، وسببه تفكُّر العبدِ في المخلوقاتِ كتفكُّره في تقصيرهِ وإهماله وقلَّة مراقبتهِ لِمَا يَرِدُ عليه، وكتفكُّره فيما ذكرهُ الله ╡ في كتابهِ من إهلاكِ من خالفَه، وما أعدَّه له في الآخرة.
          وقال القشيريُّ: الخوفُ معنًى متعلَّقُه في المستقبلِ؛ لأنَّ العبدَ إنَّما يخافُ أن يحلَّ به مكروهٌ، أو يفوتَه‼ محبوبٌ، ولا يكون هذا إلَّا لشيءٍ يحصلُ(9) في المستقبلِ.
          (وَقَالَ سُفْيَانُ) بن عُيينة: (مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ) قوله تعالى: ({لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ}[المائدة:68]) يعني: القرآن، وذلك لما فيها من التَّكليفِ من العملِ بأحكامها.
          ووجه المناسبة للتَّرجمة أنَّ الآيةَ تدلُّ على أنَّ من لم يعملْ بما تضمَّنه الكتابُ الَّذي أُنزل عليه لم تحصلْ له النَّجاة، ولا ينفعُهُ رجاؤه من غيرِ عمل ما أُمر به.


[1] في (د) و(ل) هنا والموضع التالي: «طاعته».
[2] في (د): «من حفظه ومولاه».
[3] في (د): «التشبيه».
[4] في (د): «فيرجوه».
[5] في (د): «ضرّ».
[6] «وذلك بأن يغلب على القلب الظن بحصوله في المستقبل»: ليست في (د).
[7] في (د): «عن».
[8] في (ص) و(ع): «الغرور».
[9] «يحصل»: ليست في (د).