إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: من بلغ ستين سنةً فقد أعذر الله إليه في العمر

          ░5▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين يُذكر فيه (مَنْ بَلَغَ) من العُمر (سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ) ╡ (إِلَيْهِ فِي العُمُرِ) و«أعْذَر» بالعين المهملة والذال المعجمة، والهمزةُ فيه(1) للإزالةِ، أي: أزالَ الله عُذره، فلم يبقَ له اعتذارٌ كأنْ يقول: لو مُدَّ لي في الأجلِ لفعلتُ ما أُمرت به. يقال: أعذرَ إليه إذا بلَّغَه أقصى الغاية / في العذرِ ومكَّنه منه، وإذا لم يكن له عذرٌ في تركِ الطَّاعة مع تمكُّنه منها بالعمر الَّذي حصلَ له، فلا ينبغِي له حينئذٍ إلَّا الاستغفار والطَّاعة والإقبال على الآخرة بالكليَّة، ونسبةُ الاعتذارِ إلى الله مجازيَّةٌ، والمعنى: إنَّ الله تعالى لم يتركْ للعبدِ سببًا في الاعتذارِ يتمسَّك به.
          (لِقَوْلِهِ) ╡: ({أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ}) توبيخٌ من الله، أي: فيقولُ الله تعالى لهم ذلك توبيخًا.
          قال الزَّجَّاج: أي: أَوَلَم نُعمِّركم العمر الَّذي يتذكَّر فيه من تذكَّر. وقال أبو البركات النَّسفيُّ: يجوزُ أن تكون «ما» نكرةً موصوفةً، أي: تعميرًا يتذكَّر فيه من تذكَّر. وقال ابنُ الحاجب: «ما» لا يستقيم أن تكون نافيةً من حيث اللَّفظ ومن حيث المعنى؛ أمَّا اللَّفظ فلأنَّها(2) يجبُ قطعُها عن {نُعَمِّرْكُم } لأنَّه لا يجوزُ أن يكون النَّفي من معمولهِ، وأيضًا فإنَّ الضَّمير في {فِيهِ } يرجعُ إلى غير مذكورٍ، وأمَّا المعنى فلأنَّ قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم } إنَّما سِيق لإثباتِ التَّعميرِ وتوبيخهم على تركهم(3) التَّذكير فيه، فإذا جُعل نفيًا كان فيه إخبارٌ عن نفي تذكُّر متذكِّرٍ فيه، فظاهرُه على ذلك نفي التَّعمير؛ لأنَّه إذا كان زمانًا لا يتذكَّر فيه مُتذكِّرٌ لزم أن لا يكون تعميرًا وهو خلاف قوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم}. انتهى.
          وقوله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم} متناولٌ لكلِّ عمر تمكَّن فيه(4) المُكلَّف من إصلاحِ شأنه وإن قصَّر، إلَّا أنَّ التَّوبيخ في المتطاولِ أعظم، واختُلف في مقدار العمر المُراد هنا، فعن عليِّ بن الحسين زين العابدين: سبع عشرة سنة، وعن وهبِ بنِ منبِّه: أربعون سنةً. وقال مسروقٌ: إذا بلغ أحدُكم أربعين(5) سنة، فليأخذْ حذرَهُ من الله ╡. وعن ابن عبَّاسٍ: ستُّون سنةً، وهو الصَّحيح كما سيأتي في حديث أبي هريرة أول أحاديث هذا الباب [خ¦6419]، وعن ابن عبَّاسٍ ممَّا رواهُ ابنُ مَرْدويه: سبعون(6) سنةً، فالإنسانُ لا يزالُ في ازديادٍ إلى كمال السِّتِّين، ثمَّ يشرعُ بعد ذلك في النَّقص والهرمِ.
إِذَا بَلَغَ الفَتَى سِتِّينَ عَامًا                     فَقَدْ ذَهَبَ المَسَـرَّةُ وَالهَنَاءُ
ولمَّا كان هذا هو العمر الَّذي(7) يُعذِر الله إلى عبادهِ به(8) ويزيحُ عنه العلل، كان هذا(9) هو الغالبَ على أعمار هذه الأمَّة‼، فعند أبي يَعلى من طريق إبراهيم بنِ الفضل، عن سعيد، عن أبي هُريرة: «مُعتركُ المنايا ما بين ستِّين وسبعين» لكنَّ إبراهيم بن الفضل ضعيف، وفي حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: «أعمارُ أمَّتِي ما بينَ السِّتِّين إلى السَّبعين، وأقلُّهُم من يجوزُ ذلكَ» رواه التِّرمذيُّ في «الزُّهد» ({وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}[فاطر:37]) زاد أبو ذرٍّ: ”يعني: الشَّيب“ وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاسٍ وغيره. وقال السُّدي(10) وعبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم: المُراد به رسولُ الله صلعم وهو الصَّحيح عن قتادةَ، فيكون احتجَّ عليهم بالعمر والرُّسل.


[1] «فيه»: ليست في (د).
[2] في (ص) و(ل): «فإنها».
[3] في (ص) زيادة: «على».
[4] في (د) و(ل): «منه».
[5] في (ل): «أربعون».
[6] في (د): «سبعين».
[7] في (ص) زيادة: «لا».
[8] «به»: ليست في (ص).
[9] «هذا»: ليست في (د) و(ص) و(ع).
[10] في (د): «السَّنديُّ».