إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لما اعتمر النبي في ذي القعدة فأبى أهل مكة

          4251- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي ”حَدَّثنا“ (عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بضم العين، ابنِ باذامَ الكوفيُّ (عَنْ إِسْرَائِيلَ) بنِ يونسَ (عَنْ) جدِّه (أَبِي إِسْحَاقَ) عَمرو بنِ عبد اللهِ السَّبيعيِّ (عَنِ البَرَاءِ) بنِ عازبٍ ( ☺ ) أنَّه (قَالَ: لَمَّا) بتشديد الميم، وسقطت «لَمَّا» لابن عساكرٍ (اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صلعم ) أي: أحرمَ بالعمرةِ (فِي ذِي القَعْدَةِ) سنة ستٍّ من الهجرةِ، وبلغ الحديبية (فَأَبَى) أي: امتنع (أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ) بفتح الدال، أن يتركوهُ (يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) من العام المقبل (فَلَمَّا كَتَبُوا) أي: المسلمونَ (الكِتَابَ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ ”فلمَّا كُتبَ الكتابُ“ بضم الكاف مبنيًا للمفعول، والكاتبُ: عليُّ ابنُ أبي طالبٍ (كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى) ولأبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ ”ما قاضَانا“ (عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) قال ابنُ حجرٍ: وروايةُ الكُشمِيهنيِّ غلط، وكأنه لمَّا رأى قوله: «كتبوا»، ظنَّ أنَّ المرادَ قريشٌ، وليس كذلك، بل المراد المسلمون، ونسبةُ ذلك إليهم وإن كان الكاتبُ واحدًا مجازيَّة (قَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَذَا) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ ”لا نُقِرُّ لكَ بهذَا“ (لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ صلعم مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا) وعند النَّسائيِّ «ما منعنَاكَ بيتَهُ» (وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: امْحُ) ولأبي ذرٍّ وابن عساكرٍ ”لعليِّ ابنِ أبي طالبٍ ☺ : امحُ“ (رَسُولَ اللهِ) أي: الكلمةَ المكتوبةَ من الكتاب (قَالَ عَلِيٌّ) سقط لفظ «عليّ» لأبي ذرٍّ وابن عساكرٍ (لَا وَاللهِ، لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلعم الكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ) فقالَ لعليٍّ: أرني مكانَها فمحاهَا، فأعادها لعليٍّ (فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) وبهذا التَّقرير يزولُ استشكالُ(1) ظاهرهِ المقتضي: أنَّه صلعم كتب المُستلزمَ لكونه غير أُمِّيٍّ، وهو يناقضُ الآيةَ التي قامت بها الحجَّة وأفحمتِ الجاحد، وقيل: المرادُ بقوله: «كتبَ» أمر بالكتابة، فإسناد الكتابة إليه مجاز، وهو كثيرٌ كقولهم: كتب إلى كسرى، وكتب إلى قيصر، فقوله: «كتب» أي: أمر عليًا أن يكتبَ.
          وأمَّا إنكارُ بعض المتأخِّرينَ على أبي مسعود نسبتها إلى تخريج البخاريِّ فليس بشيءٍ، فقد علم ثبوتَها فيه، وكذا أخرجه النَّسائي عن أحمدَ بنِ سليمانَ‼ عن عبيدِ الله بنِ موسى، وكذا أحمدُ عن يحيى بنِ المثنَّى عن إسرائيل، ولفظه: «فأخذَ الكتابَ وليس يحسنُ أن يكتبَ، فكتبَ مكان رسول الله صلعم / : هذا ما قاضى عليه محمد بنُ عبدِ الله». نعم لم يذكرِ البخاريُّ هذه الزِّيادة في «الصُّلح» [خ¦2699] حيث ذكر الحديثَ عن عبيدِ الله بنِ موسى بهذا الإسناد. وقول الباجيِّ: إنَّه صلعم كتبَ بعد أن لم يكتب، وأنَّ ذلك معجزةٌ أخرى، ردَّه(2) عليه علماءُ الأندلس في زمانهِ، ورموه بسبب ذلك بالزَّندقة، والله أعلم. قال السُّهيليُّ: والمعجزاتُ يستحيلُ أن يدفعَ بعضُها بعضًا.
          ولأبي ذرٍّ وابن عساكرٍ ”هذا ما قاضَى عليهِ محمد بنُ عبد اللهِ“ (لَا يُدْخِلُ) بضم أوله وكسر ثالثه (مَكَّةَ السِّلَاحَ إِلَّا السَّيْفَ فِي القِرَابِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ) بفتح أوله وضم ثالثه (مِنْ أَهْلِهَا بِأَحَدٍ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا إِنْ أَرَادَ) وسقط لأبي ذرٍّ لفظ «إن» من «إن أرادَ» الثَّانية (أَنْ يُقِيمَ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا) ╕ في العام المقبل (وَمَضَى الأَجَلُ) أي: قَرُبَ مضيُّ الثَّلاثة أيَّام (أَتَوْا) كفَّار قريشٍ (عَلِيًّا، فَقَالُوا) له: (قُلْ لِصَاحِبِكَ) يعنونَ النَّبيَّ صلعم : (اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ) وفي «مغازي أبي الأسود» عن عروةَ: «فلمَّا كان اليومُ الرَّابع جاءَه(3) سهيلُ بنُ عَمرو وحويطِبُ بنُ عبدِ العزى فقالا: ننشدكَ الله والعهد إلَّا ما خرجتَ من أرضنَا، فردَّ عليهما(4) سعدُ بنُ عبادةَ، فأسكتهُ النَّبيُّ صلعم وآذنَ بالرَّحيل»، وكأنَّه قد دخل في أثناء النَّهار، فلم يكمِّل الثَّلاث إلَّا في مثل ذلك الوقت من النَّهار الرَّابع، الذي دخلَ فيه بالتَّلفيق، وكان مجيئهم في أثناءِ النَّهار، قرب مجيءِ ذلك الوقت (فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلعم ، فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ) اسمها: عُمَارة أو فاطمة أو أُمامة أو أمةُ الله أو سلمة، والأوَّل أشهرُ، ولابن عساكرٍ ”بنتُ حمزةَ“ (تُنَادِي) النَّبيَّ صلعم إجلالًا له (يَا عَمِّ، يَا عَمِّ) مرَّتين، وإلَّا فهو صلعم ابن عمِّها، أو لكون حمزةَ كان(5) أخاهُ من الرَّضاعة (فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ) ☺ (فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ) زوجته ( ♀ : دُونَكِ) أي: خذِي (ابْنَةَ) ولأبي ذرٍّ وابن عساكرٍ ”بنتَ“ (عَمِّكِ، حَمَلَتْهَا) بتخفيف الميم بلفظ الماضي، وكأنَّ الفاء سقطت، وهي ثابتةٌ عند النَّسائيِّ من الوجه الذي أخرجه منه البخاريُّ، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والكُشمِيهنيِّ: ”حمِّليْها“ بتشديد الميم المكسورة وبعد اللام تحتية ساكنة بصيغة الأمر، وللأَصيليِّ هنا مصحِّحًا عليه في الفَرْع كأصله: ”احملِيْها“ «بألف» بدل: «التَّشديد».
          فإن قلتَ: كيف أخرجها ╕ من مكَّة ولم يردَّها إليهم، مع اشتراطِ المشركين أن لا يخرجَ بأحدٍ من أهلها إن أراد الخروجَ؟ أجيبَ بأنَّ النِّساء المؤمنات لم يدخلْنَ في ذلك، وبأنَّه ╕ لم يخرجها ولم يأمرْ بإخراجِها، وبأنَّ المشركين لم يطلبُوها.
          (فَاخْتَصَمَ فِيهَا) في بنتِ حمزةَ بعد أن قَدِموا المدينةَ، كما عندَ أحمد والحاكم (عَلِيٌّ) هو ابنُ أبي طالبٍ (وَزَيْدٌ) هو ابنُ حارثةَ (وَجَعْفَرٌ) هو ابنُ أبي طالب؛ أي‼: في أيِّهم تكون عنده (قَالَ) ولابن عساكرٍ ”فقالَ“ (عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا، وَهْيَ بِنْتُ عَمِّي) زاد أبو داودٍ في حديث عليٍّ: «وعندِي ابنة رسولِ الله صلعم ، وهي أحقُّ بها» (وَقَالَ جَعْفَرٌ: هي ابْنَةُ) ولأبي ذرٍّ ”بنتُ“ (عَمِّي، وَخَالَتُهَا) أسماءُ بنتُ عُمَيسٍ (تَحْتِي) أي: زوجتي (وَقَالَ) بالواو، ولأبي ذرٍّ ”فقالَ“ (زَيْدٌ: ابْنَةُ) ولأبي ذرٍّ وابن عساكرٍ ”بنتُ“ (أَخِي) وكان النَّبيُّ صلعم آخى بينَه وبينَ حمزةَ، كما ذكرهُ الحاكمُ في «الإكليل»، وأبو سعد في «شرف المصطفى»، وزاد في حديث عليٍّ: «إنَّما خرجتُ إليها»، وعنده أيضًا: أنَّ زيدًا هو الَّذي أخرجَها من مكَّة (فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صلعم ) ولأبي ذرٍّ ”رسولُ اللهِ“ ( صلعم لِخَالَتِهَا) أسماء، فرجح جانبَ جعفرٍ لقرابتهِ(6) وقرابةِ امرأتهِ منها دونَ الآخرين، وفي رواية أبي سعيدٍ السُّكَّريِّ: «ادفعاها إلى جعفرٍ، فإنَّه أوسعكم» (وَقَالَ) ╕ : (الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ) أي: في الشَّفقة والحنوِّ والاهتداءِ إلى ما يصلح الولد (وَقَالَ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) أي: في النَّسب والصِّهر والسَّابقة والمحبَّةِ (وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي) بفتح الخاء في الأولى، أي: صورتي، وبضمِّها في الثانية، أما الأوَّلى: فقد شارك جعفرًا فيها جماعةٌ عدَّها بعضهم سبعًا وعشرين، وأما الثَّانية: فخصوصيَّةٌ لجعفر. نعم في حديث عائشةَ ما يقتضي حصول مثل / ذلك لفاطمةَ، لكنَّه ليس بصريحٍ كما في قصَّة جعفرٍ، وهي منقبةٌ عظيمةٌ لجعفرٍ على ما لا يخفى (وَقَالَ) ╕ (لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا) في الإيمان (وَمَوْلَانَا) أي: عتيقنا (وَقَالَ) ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ وابن عساكرٍ ”قالَ“ بإسقاط الواو (عَلِيٌّ) بالإسناد السَّابق له ╕ : (أَلَا تَتَزَوَّجُ بِنْتَ حَمْزَةَ؟ قَالَ) ╕ : (إِنَّهَا ابْنَةُ) ولأبي ذرٍّ وابن عساكرٍ ”بنتُ“ (أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ) فلا تحلُّ لي.
          وهذا الحديثُ سبق في «باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان ابن فلان» من «كتاب الصلح» [خ¦2699].


[1] في (م): «إشكال».
[2] في (م): «فرده»، وفي (ب): «رد».
[3] في (ب): «جاء».
[4] في (ص) و(د): «عليه».
[5] «كان»: ليست في (ص) و(م).
[6] في (ص): «جانب القرابة».