إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش

          4122- وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولابنِ عساكرٍ(1) ”حَدَّثني“ بالإفراد (زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى) بنِ صالحٍ أبو يَحيى البَلخيُّ الحافظُ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) بالنون(2) مصغَّرًا، الهَمْدانيُّ الكوفيُّ قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ) عُروة بنِ الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ ♦ ) أنَّها (قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ) هو ابنُ معاذٍ الأنصاريُّ (يَوْمَ الخَنْدَقِ؛ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ) كفَّار (قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ) بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة (ابْنُ العَرِقَةِ) بفتح العين المهملة وكسر الراء بعدها قاف فهاء تأنيث، اسمُ أمِّه لطيبِ ريحهَا، قال في «المصابيح»: وذكرَ الزُّبير بن بكَّار في «الأنساب» أنَّ اسمها قلابة بنتُ أسعَد. فعلى هذا تكون «العَرِقة» وصفًا لها أو لقبًا، ولأبي ذرٍّ ”وهو حِبَّان ابنُ قيس من بني مَعِيص بن عامرِ بن لُؤي“ _بفتح ميم «مَعِيْص» وكسر العين المهملة بعدها تحتية ساكنة فمهملة_ ابن علقَمة بن(3) عبدِ منَاف (رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ) بفتح الهمزة وسكون الكاف بعدها مهملة فلام، عرق في وسطِ الذِّراع، في كلِّ عضوٍ منه شُعبة‼، إذا قُطع لم يَرْقأ الدَّم (فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلعم خَيْمَةً) كذا في «اليونينية» وغيرها، وفي الفَرْع: ”خيمتَهُ“ (فِي المَسْجِدِ) النَّبوي بالمدينةِ، وعندَ ابنِ إسحاق: «في خيمةِ رُفَيْدَة عندَ مسجدهِ، وكانت تداوِي الجَرحى» (لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنَ الخَنْدَقِ) إلى بيتهِ بالمدينَة(4)، وجوابُ «لَمَّا» قوله: (وَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ◙ ) زاد ابنُ سعدٍ(5): «على فرسٍ عليه عمامةٌ سوداءُ قد أرخَاها بين كتفيِه، على ثنايَاه الغُبار(6) وتحته قطيفةٌ حَمراء» (وَهْوَ) أي: والحالُ أنَّه (يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الغُبَارِ، فَقَالَ) للنَّبيِّ صلعم : (قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟! وَاللهِ مَا وَضَعْتُهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلعم : فَأَيْنَ) أذهبُ؟ (فَأَشَارَ) جبريلُ ◙ (إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلعم ) فحاصَرهم بضعَ عشرَة ليلةً، كما عندَ موسَى بنِ عُقْبة، وفي حديثِ علقمَة بنِ وقَّاص عن عائشةَ _عند أحمد والطَّبراني_ «خمسًا وعشرين» وكذا عندَ ابنِ إسحاق، وزاد: «حتَّى أجهدهُم الحِصار، وقذفَ في قلوبِهم الرُّعب، فعرضَ عليهم رئيسُهم كعبُ بن أَسَدٍ أن يُؤمنوا، أو يقتُلوا نساءهم وأبناءهم، ويخرجوا مستقتلين، أو يبيِّتوا المسلِمين ليلةَ السَّبت، فقالوا: لا نؤمِن، ولا نستحلُّ السَّبت، وأيُّ عيشٍ لنا بعد أبنائنا ونسائنا، فأرسلوا إلى أبي لُبابة بن عبدِ المُنذر _وكانوا حُلفاءه_ فاستشاروهُ في النُّزول على حكمِ النَّبيِّ صلعم ، فأشار إلى حلقِه؛ يعني: الذَّبح، ثمَّ ندمِ فتوجَّه إلى المسجدِ النَّبويِّ، فارتبط بهِ حتَّى تابَ الله عليه».
          (فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ) ╕ (فَرَدَّ) ╕ (الحُكْمَ) فيهم (إِلَى سَعْدٍ) أي: ابن معاذٍ، فأرسلَ إليه فلمَّا حضر (قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ) الطَّائفة (المُقَاتِلَةُ) منهم، وهم الرِّجال (وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ) أي: الصِّبيان (وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ) وعندَ ابنِ إسحاق: «فخندقُوا لهم خنادِق فضُربت أعناقُهم، فجرى الدَّم في الخندقِ، وقسمَ أموالهم ونساءهُم وأبناءهُم، وكانوا ست مئة». وعندَ التِّرمذي والنَّسائي وابن حبَّان بإسنادٍ صحيح: أنَّهم كانوا أربع مئة مقاتلٍ. فيُجمع بينهما بأنَّ الباقِين كانوا أتباعًا (قَالَ هِشَامٌ) بالإسنادِ السَّابق: (فَأَخْبَرَنِي) بالإفراد (أَبِي) عروة بن الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ ♦ : أَنَّ سَعْدًا قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صلعم وَأَخْرَجُوهُ) من وطنهِ مكَّة (اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ) كفَّار (قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي) بهمزة قطع (لَهُ) أي: للحربِ، ولابنِ عساكرٍ وأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ ”لهم“ أي: لقريشٍ (حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ‼ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الحَرْبَ) بيننا وبينهُم (فَافْجُرْهَا) بهمزة وصل وضم الجيم، أي: جراحتَه، وقد كادَت أن تبرأ، وفي مسلمٍ من روايةِ عبد الله بن نُمير عن هشامٍ: «قالَ سَعد: وتحجَّر كَلْمُه للبُرءِ، اللَّهمَّ إنَّك(7) تعلم... إلى آخره» ومعنى «تحجَّر»: يَبس(8) (وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا) لأفوزَ بمرتبةِ الشَّهادة (فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ) بفتح اللام والموحدة / المشددة وكسر المثناة، من موضعِ القلادَة من صدرهِ، وكانَ موضعُ الجُرح ورِم حتَّى اتَّصل الورمُ إلى صدرهِ، فانفجَرت منه(9)، وعندَ ابن سعدٍ من مرسلِ حُميد بن هلالٍ: «أنَّه مرَّت به عنز وهوَ مضطجعٌ، فأصابَ ظِلْفُها موضعَ الجُرحِ فانفجَرت» ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ ”من ليلتهِ“. قال في «الفتح»: وهو تصحيفٌ.
          (فَلَمْ يَرُعْهُمْ) بفتح أوله وضم ثانيه وتسكين العين المهملة، أي: لم يفزعْ أهلُ المسجد (وَفِي المَسْجِدِ خَيْمَةٌ) والجملة حاليةٌ (مِنْ بَنِي غِفَارٍ) أي: لرجلٍ(10)، أو من خيامِ بني غِفَار _بكسر المعجمة وتخفيف الفاء_، وعندَ ابن إسحاق: أنَّها لرُفيدة. فلعلَّ زوجَها كان من بنِي غِفار، ورجَّعَ الكِرْمانيُّ _وتبعه البَرْمَاويُّ_ الضَّميرَ في قولهِ: «فلمْ يَرعهُم» لبنِي غِفَار، قال: والسِّياق يدلُّ عليهِ، أي: لم يفزع بني غِفار (إِلَّا الدَّمُ) الخارجُ من جرحِ سعدٍ (يَسِيلُ إِلَيْهِمْ) إلى أهلِ المسجدِ (فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟) بكسر القاف وفتح الموحدة، من جهتكُم، وهذا يضعِّف قولَ الكِرْمانيِّ: أنَّ الضَّمير راجعٌ لبنِي غِفَار على ما لا يخفى، نعم إن كان ثَمَّ خيمةٌ غيرَ الَّتي فيها سعد فلا إشكالَ (فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو) بالغين والذال المعجمتين، يسيلُ (جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ مِنْهَا) أي: من تلكَ الجِراحة، واهتزَّ لموتهِ عرشُ الرَّحمن، وشيَّعه سبعون ألف ملك ( ☺ ).
          وهذا الحديثُ سبقَ في «بابِ الخيمة في المسجدِ» في «كتابِ الصَّلاة» [خ¦463].


[1] في (ب) و(س): «لأبي ذر».
[2] في (ص): «بضمِّ النون».
[3] في (د) و(م): «وأبو لؤي» بدل: «ابن علقمة بن»، والمثبت موافق لإكمال ابن ماكولا.
[4] في (ص): «إلى المدينة».
[5] في (م): «إسحاق».
[6] في (ص): «التراب».
[7] في (ب): «إن كنت».
[8] في (ص) و(د): «أي: يبس».
[9] «منه»: ليست في (ص).
[10] في (م) و(ص): «الرجل».