إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث ابن أبزى: سل ابن عباس عن هاتين الآيتين

          3855- وبه قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ ”حدَّثني“ بالإفراد (عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أخو أبي بكرٍ قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ) هو ابن عبد الحميد (عَنْ / مَنْصُورٍ) هو ابن المعتمر، أنَّه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ ”حدَّثنا“ (سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، أَوْ قَالَ) منصورٌ: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (الحَكَمُ) بْنُ عُتَيْبَة _بضمِّ العين وفتح الفوقيَّة وسكون التَّحتيَّة وفتح المُوحَّدة_ الكنديُّ الكوفيُّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنَّه (قَالَ: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى) بفتح الهمزة وسكون الموحَّدة وفتح الزَّاي مقصورٌ، الخزاعيُّ مولاهم، صحابيٌّ صغيرٌ (قَالَ: سَلِ ابْنَ عَبَّاسٍ) ☻ ؛ بفتح السِّين من غير همزٍ، وفي «النَّاصريَّة»: ”قال: اسأل ابن عبَّاسٍ ☻ “ (عَنْ هَاتَيْنِ: الآيَتَيْنِ مَا أَمْرُهُمَا؟) أي: ما(1) التَّوفيق بينهما؟ وهما قوله تعالى في سورة الفرقان: (▬وَلَا تَقتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ↨) كذا في الرِّواية، ولفظ التِّلاوة: {وَلَا يَقْتُلُونَ}[الفرقان:68] بثبوت النُّون، زاد أبو ذرٍّ: ”{إِلَّا بِالْحَقِّ}“ ({وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا}[النساء:93]) أي: حيث دلَّت الأولى على العفو عند التَّوبة، والثَّانية على وجوب الجزاء مطلقًا (فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) ☻ عن ذلك (فَقَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتِ الَّتِي فِي الفُرْقَانِ؛ قَالَ مُشْرِكُو‼ أَهْلِ مَكَّةَ: فَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَدَعَوْنَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَقَدْ أَتَيْنَا الفَوَاحِشَ) فما يُغني عنَّا الإسلام وقد فعلنا ذلك كلَّه، وسقط قوله «وقد» لأبي ذرٍّ (فَأَنْزَلَ اللهُ) ╡: ({إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ}... الآيَةَ[الفرقان:70]) التي في سورة الفرقان (فَهَذِهِ لأُولَئِكَ) الكفَّار (وَأَمَّا الَّتِي فِي) سورة (النِّسَاءِ) ففي (الرَّجُلُ) المسلم (إِذَا عَرَفَ الإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ، ثُمَّ قَتَلَ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خالدًا فِيهَا) سقط قوله «خالدًا فيها» من «اليونينيَّة» فلا تُقبَل توبته، وقال زيد بن ثابتٍ: «لمَّا نزلت التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ}[الفرقان:68] عجبنا من لينها، فمكثنا سبعة أشهرٍ ثمَّ نزلت الغليظة بعد اللَّيِّنة، فنُسِخت اللَّيِّنة» وأراد بالغليظة آية النِّساء وباللَّيِّنة آية الفرقان، وقد ذهب أهل السُّنَّة إلى أنَّ توبة قاتل المسلم عمدًا مقبولةٌ لآيةِ {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ}[طه:82] و {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء: 48] وما رُوِي عن ابن عبَّاسٍ ☻ ؛ فهو تشديدٌ ومُبالَغةٌ في الزَّجر عن القتل، وليس في الآية مُتمَسَّكٌ لمن قال بالتَّخليد في النَّار بارتكاب الكبائر(2)؛ لأنَّ الآية نزلت في قاتلٍ هو كافرٌ، وهو مِقْيَس بن ضَبَابة، وقيل: إنَّه وعيدٌ لمن قتل مؤمنًا مستحلًّا لقتله بسبب إيمانه، ومن استحلَّ قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرًا مُخلَّدًا في النَّار، وذُكِرَ أنَّ عمرو بن عُبَيدٍ جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: هل يُخْلِف الله وعده؟ فقال: لا، فقال: أليس قد قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}[النساء:93]؟ فقال أبو عمرٍو: من العجمة أتيت(3) يا أبا عثمان! إنَّ العرب لا تعدُّ الإخلاف في الوعيد خُلْفًا، وإنَّما تعدُّ إخلاف الوعد خُلْفًا، وأنشد:
وإنِّي وإن أوعدْتُهُ أو وعدْتُهُ                     لَمُخْلِفُ إيعادي ومنجزُ موعدي
          قال عبد الرَّحمن بن أبزى: (فَذَكَرْتُهُ) أي: قول ابن عبَّاسٍ ☻ (لِمُجَاهِدٍ) هو ابن جبرٍ (فَقَالَ: إِلَّا مَنْ نَدِمَ) أي: الآية الثَّانية مقيَّدةٌ بقوله: {إِلَّا مَن تَابَ}[الفرقان:70] حملًا للمُطلَق على المُقيَّد.
          وهذا الحديث أخرجه المؤلِّف أيضًا في «التَّفسير» [خ¦4766]، وأبو داود في «الفتن»، والنَّسائيُّ في «المحاربة» و«التَّفسير».


[1] في (م): «في».
[2] في (م): «الكبيرة».
[3] في (م): «أتيت من العجمة به».