إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن رسول الله مات وأبو بكر بالسنح

          3667- 3668- وبه قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الأويسيُّ قَالَ: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) أبو أيوب القرشيُّ التيميُّ (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ) أبيه (عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) ولأبي ذرٍّ: ”قال: أَخْبَرَنِي“ بالإفراد ”عروة بن الزبير“ (عَنْ عَائِشَةَ ♦ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ) غائبٌ عند زوجتِهِ بنت خارجةَ الأنصاريِّ (بِالسُّنْحِ) بالسين المهملة المضمومة والنون الساكنة بعدها حاء مهملة (قَالَ إِسْمَاعِيلُ) بنُ عبد الله الأويسيُّ المذكور: (يَعْنِي) ولأبي ذرٍّ: ”تعني“ «بالفوقية» بدل: «التحتيَّة»، أي: عائشةُ(1) بالسُّنحِ (بِالعَالِيَةِ) وهي منازلُ بني الحارث (فَقَامَ عُمَرُ) بنُ الخطَّاب حالَ كونِه (يَقُولُ: وَاللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) وعند أحمدَ: أنَّ عائشة قالت: «جاء عمرُ والمغيرةُ بنُ شعبةَ، فاستأذنا، فأذنتُ لهما وجذبت الحِجاب، فنظر عمرُ إليه فقال: واغشيتاه(2) ثم قاما، فلمَّا دنَوا مِنَ الباب؛ قال المغيرة: يا عمرُ ماتَ(3)؟ قال: كذبتَ إنَّ رسول الله صلعم لا يموتُ حتَّى يُفني الله المنافقين...» الحديث، وهذا قاله عمرُ بناءً على غلبةِ(4) ظنِّه حيث أدَّاه اجتهادُه إليه، وفي «سيرة ابن إسحاق» من طريق ابن عبَّاس ☻ : أنَّ عمر ☺ قال له: إنَّ الحامل له(5) على هذه المقالة قولُه تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143] فظن أنَّه صلعم يبقى في أُمَّتِه حتى يشهد عليها.
          (قَالَتْ) عائشةُ: (وَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ) أي: عدم موتِه (وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ) ╡ في الدنيا (فَلَيَقْطَعَنَّ) بفتح اللَّام والتحتيَّة وسكون القاف وفتح الطاء، ولأبي ذرٍّ: ”فَليُقَطِّعِنَّ“ بضمِّ التحتيَّة وفتح القاف وكسر الطاء المشدَّدة(6) (أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ) قائلينَ بموته ╕ (فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ) ☺ من السُّنْح (فَكَشَفَ عَنْ) وجه (رَسُولِ اللهِ صلعم فَقَبَّلَهُ) بين عينيه (فَقَالَ) وفي «اليونينية» والفرع(7): ”قال“ وكشط ما قبلها: (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) أي: مُفَدًّى(8) بهما، فالباء متعلِّقةٌ بمحذوفٍ (طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَ) الله (الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَا يُذِيقُكَ اللهُ) برفع «يذيقُ» (المَوْتَتَيْنِ) في الدنيا (أَبَدًا) ومرادُه: الردُّ على عمرَ حيث قال: إنَّ الله يبعثُه حتى يقطع أيديَ رجالٍ وأرجلَهم؛ لأنَّه لو صحَّ ما قاله؛ لزم أن يموتَ موتةً أُخرى، فأشار إلى أنَّه أكرمُ على الله مِنْ أنْ يجمعَ عليه موتتين كما جمَعُهما على غيرِه {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}[البقرة:259] أو لأنَّه(9) يحيا في قبره ثم لا يموت (ثُمَّ خَرَجَ)‼ أبو بكر من عند النبيِّ صلعم وعمرُ يكلِّمُ الناسَ (فَقَالَ) له: (أَيُّهَا الحَالِفُ) أنَّ رسولَ الله صلعم ما مات (عَلَى رِسْلِكَ) بكسر الراء؛ اتَّئِدْ في الحَلِفِ ولا تستعجلْ (فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ؛ جَلَسَ عُمَرُ) وفي «الجنائز» [خ¦1242] خرجَ(10) وعمرُ يكلِّم الناسَ، فقال: اجلس، فأبى. (فَحَمِدَ اللهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَلَا) بالتخفيف(11) للتنبيه على ما يأتي بعدُ (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلعم قَدْ مَاتَ) وسقطت التصلية لأبي ذرٍّ (وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ؛ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزمر:30]) فإنَّ الكلَّ بصدد الموت في عداد الموتى (وَقَالَ / : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا}) بارتداده ({وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران:144] قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ) بنون فشين معجمة فجيم مفتوحات (يَبْكُونَ) قال الجوهريُّ: نشج الباكي: إذا غَصَّ بالبكاء في حلقه مِن غير انتحاب، أو هو بكاءٌ معه صوت.
          (قَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ) الأنصاريِّ الساعديِّ، وكان نقيب بني ساعدة لأجل الخلافة (فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ) موضعٌ مسقَّف كالساباط يجتمع إليه الأنصار (فَقَالُوا) أي: الأنصار للمهاجرين: (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) قالوا ذلك على عادة العرب الجارية بينهم ألَّا يسود القبيلة إلَّا رجلٌ منهم (فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ) الصديق (وَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ) عامر (ابْنُ الجَرَّاحِ) ♥ (فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فَأَسْكَتَهُ) بالفوقية (أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللهِ مَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ إِلَّا أَنِّي قَدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قَدْ أَعْجَبَنِي(12) خَشِيتُ) أي: خفت (أَنْ لَا يَبْلُغَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ) حالَ كونهِ (أَبْلَغَُ النَّاسِ) ويجوزُ رفعُ «أبلغ» خبر مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فتكلم أبو بكر وهو أبلغُ الناس، وفي «باب رجم الحبلى من الزنا» [خ¦6830] من حديث ابن عبَّاس: عن عمر أنَّه قال: «قد كان مِن خبرنا حين توفَّى الله نبيَّه أنَّ الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا(13) علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ☺ ، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم...» الحديث، إلى أن قال: «فلمَّا جلسنا خطب خطيبُهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أمَّا بعد؛ فنحن أنصارُ الله وكتيبةُ الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رَهْطٌ، وقد دَفَّت دافَّةٌ مِن قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، وأن يحضنونا من الأمر، فلمَّا سكت قال عمر: أردتُ أن أتكلَّم وكنت زوَّرتُ مقالةً أعجبتني أُريدُ أن أقدِّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أُداري منه بعض الحَدِّ(14)، فلمَّا أردت أن أتكلَّم؛ قال أبو بكر: على رِسْلِك، فكرهتُ أن أُغضِبَه، فتكلَّم أبو بكر، فكان هو أحلمَ منِّي‼ وأوقر، والله ما تركَ مِن كلمةٍ أعجبتني في تزويري إلَّا قال في بديهته مثلَها أو أفضلَ منها» (فَقَالَ فِي) جملةِ (كَلَامِهِ: نَحْنُ) أي: قريشٌ (الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الوُزَرَاءُ) المستشارون في الأمور، فالخلافة(15) لا تكون إلَّا في قريٍش (فَقَالَ حُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ) بضمِّ الحاء المهملة وفتح الموحَّدة الأولى مخففة، و«المنذر» بلفظ الفاعل من الإنذار، الأنصاري: (لَا وَاللهِ لَا نَفْعَلُ) ذلك (مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) وزاد ابن سعد من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمَّد: «فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم» (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَلَكِنَّا الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الوُزَرَاءُ، هُمْ) أي: قريشٌ (أَوْسَطُ العَرَبِ دَارًا) مكَّة، أي: هم(16) أشرفُ قبيلةٍ (وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا) بالموحَّدة في «أعربهم»، و«أحسابًا»: بفتح الهمزة وبالموحَّدة جمع حسب، أي: أشبه شمائل وأفعالًا بالعرب، والحسب: الفِعال الحِسان مأخوذ مِنَ الحساب إذا عدُّوا مناقبَهم، فمَن كان أكثرَ كان أعظمَ حَسَبًا، ويقال: النسبُ للآباء والحسَبُ للأفعال (فَبَايِعُوا) بكسر التحتية بلفظ الأمر (عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ أَو أَبَا عُبَيْدَةَ ابْنَ الجَرَّاحِ) ثبت: ”ابن الجراح“ لأبي ذرٍّ (فَقَالَ عُمَرُ) ☺ : (بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ، فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ) أي: بيد أبي بكر (فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ) المهاجرونَ وكذا الأنصارُ حين قامتْ عليهم الحجَّةُ بثبوتِ قولِه صلعم : «الخلافةُ في قُريشٍ» عندَهم (فَقَالَ قَائِلٌ) مِن الأنصار: (قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ) أي: كِدتم تقتلونه، أو هو كنايةٌ عن الإعراض والخذلان (فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللهُ) دعاء عليه؛ لعدم نُصرته للحق وتخلُّفهِ _فيما قيل_ عن بيعة أبي بكر وامتناعه منها، وتوجَّه إلى الشام، فمات بها في ولاية عمر بحوران سنة أربع عشرة أو خمس عشرة، وقيل: إنَّه وُجِدَ ميتًا في مغتسله وقد اخضرَّ جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول ولا يرون(17) شخصه:
قد قتلنا سيِّد الخز                     رجِ سعدَ بنَ عبادة
فرميناهُ بسهميـ                     ـنِ(18) فلم نُخطِ فؤادَه
/
          والعذرُ له في تخلُّفه عن بيعة الصديق: أنَّه تأوَّلَ أنَّ للأنصار استحقاقًا في الخلافة، فهو معذورٌ وإن كان ما اعتقده من ذلك خطأً.
          وهذا الحديث من أفراد المؤلف.


[1] قوله: «ولأبي ذر: تعني... التحتيَّة؛ أي: عائشةُ » سقط من (ص)، وقوله: «أي عائشة»: ليس في (د).
[2] في غير (د): «واغشياه».
[3] في مسند أحمد (25841) زيادة: «رسول الله صلعم».
[4] «غلبة»: ليس في (د).
[5] «له»: مثبت من (د) و(س).
[6] في (د) و(س): «مشدَّدةً».
[7] في (د): في «اليونينية» وفي «الفرع».
[8] في (م): «نفديه».
[9] في (ب) و(س): «أنه».
[10] زيد في غير (د): «أبو بكر».
[11] في (م): «بتخفيف اللام».
[12] زيد في (م): «لكن».
[13] في (ب): «غالب الناس» وهو خطأ.
[14] في (د): «الحدة»، وفي (ب) و(س): «الحديث»، والمثبت من (ص).
[15] في (ب) و(س): «والخلافة».
[16] «هم»: ليس في (د).
[17] في (د): «ولم يروا».
[18] في (د) و(م): «بسهم».