الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم

          879- وبالسند قال: (حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرنَا مَالِكٌ، عَنْ صَفْوَانَ) بفتح الصاد المهملة / (ابنُ سَلِيْمِ) مصغراً (عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ) بفتح التحتية أوله؛ أي: مولى ميمونةَ أمِّ المؤمنين.
          (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) أي: بالغ، فخرج الصبيُّ، وقد تمسَّك به مَن قال: الغسلُ لليوم لإضافته إليه.
          وتقدَّم في بيان سببِ الحديث مِنْ أنه لإزالة الروائحِ الكريهة أنه للصلاةِ لا لليوم، وهو الصَّحيحُ من مذهب الشَّافعية، وبه قال مالكٌ وأبو يوسف.
          وقولُه ((واجب)): أي: كالواجب في تأكُّد الندبيةِ، وقيل: واجبٌ في الاختيار وكرم الأخلاق والنَّظافة، وقيل: في الكيفية لا في الحكمِ.
          وأوَّلَه القدوري من الحنفيَّة بما فيه تكلُّفٌ وبشاعةٌ فقال: ((واجبٌ)) بمعنى: ساقط و((على)) بمعنى عن.
          وكذا تأويلُ بعضهم بأنه واجبٌ مستقلٌّ فليس بشرطٍ، فتصحُّ الصلاةُ بدونه، إذ يلزمُ عليه تأثيمُ عثمان في تركه، وأُجيبَ عنه: بأنه كان معذوراً في خوفِ فواتِ الجمعة، فتأمل.
          وكذا قولُ ابنِ الجوزي: يحتملُ أنَّ لفظَ الوجوبِ مغيَّرٌ من بعضِ الرواة، أو ثابت في نسخِ الوجوب، ورُدَّ: بأنَّ الطعنَ في الرواية الثابتة بالظنِّ الذي لا مستندَ له لا يُقبلُ، وبأنَّ النَّسخَ لا يصار إليه إلا بدليلٍ.
          ونقل ابن الملقِّن أنَّ الشافعيَّ قال: ما تركتُ الاغتسالَ يوم الجمعة في حَضَر ولا سفرٍ، وإن اشتريتُه بدينارٍ، وتقدم أنَّ مِنَ الصارفِ له عن الوجوب حديثُ: ((مَنْ توضأَ يومَ الجمعةِ)).
          واستدلَّ الشافعي في ((الرسالة)) لعدم وجوبه بقصة عمرَ وعثمان السابقة، قال فيها: لما لم يتركْ عثمانُ الصلاةَ للغسل، ولم يأمرْه عمرُ بالخروج له، دلَّ ذلك على أنهما عَلِما أنَّ الأمرَ بالغسلِ للاختيار.
          قال في ((الفتح)): وحكى ابنُ المنذر عن إسحاقَ بنِ راهويه: أنَّ قصةَ عمرَ وعثمان تدلُّ على وجوب الغسل لا على عدمه مِن جهةِ تركِ عمر الخطبةَ واشتغالِهِ بمعاتبة عثمان وتوبيخِهِ على رؤوس الناس، وإنما لم يرجعْ عثمان للغسل لضيق الوقت، والقولُ بعدم وجوبهِ هو مذهبُ جمهور الصَّحابةِ والتابعين والأئمة المجتهدين إلا مَن شذَّ كالظاهرية، وحكاه ابنُ حزمٍ عن جمعٍ من الصحابة، منهم: عمر وسعد، لكنْ ليس فيها تصريحٌ بالوجوب، بل اعتمدَ على أشياءَ محتملةٍ كقول سعد: ما كنتُ أظنُّ مسلماً يدعُ غسلَ الجمعة.
          وحكاه ابن المنذر والخطَّابي عن مالكٍ، وردَّه عياضٌ وغيره بأنه ليس معروفاً في مذهبه، لكنْ ردَّ بأنَّ الروايةَ عنه بالوجوبِ نقلها في ((التمهيد)).
          وفيه أيضاً أنه سُئلَ عنه فقال: حسنٌ وليس بواجبٍ. انتهى، فتدبر.
          وقال ابنُ دقيق العيد: نصَّ مالكٌ على وجوبهِ، فحملَه مَن لم يمارسْ مذهبَه على ظاهرهِ، وأبى ذلك أصحابُه.
          وحكاه شارحُ ((الغنية)): لابن سريجٍ قولاً للشَّافعي، واستغرب، وحكاهُ بعضُ المتأخرين عن ابنِ خزيمةَ وهو غلطٌ عليه.
          وقال ابنُ رجبٍ: وحُكي روايةٌ عن أحمدَ، قال في رواية حربٍ وغيره: أخاف أنْ يكونَ واجباً إلا أنْ يكونَ برد شديد، قال: وهذا لا يدلُّ على الوجوب جزماً، قال: وهو روايةٌ عن مالكٍ. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وحكى صاحبُ ((الهدي)) عن بعض الحنابلةِ التفصيلَ بين ذي النَّظافة وغيرِه، فيجبُ على الثاني دون الأول نظراً للعلَّة، ومما يدلُّ على عدم الوجوب أيضاً ما رواه مسلمٌ عن أبي هريرةَ رفعه: ((مَنْ توضأَ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتى الجمعةَ فدنا واستمعَ وأنصتَ غُفر له ما بينه وبين الجمُعة الأخرى، وزيادةُ ثلاثة أيامٍ)). انتهى.
          لكنْ قيل عليه: إنه ساكتٌ عن الغسل.
          وقال / ابن رجبٍ: وأما روايةُ الوجوب، فالوجوبُ نوعان: وجوبُ حتمٍ، ووجوب سنَّةٍ وفضلٍ، ثم قال: والأكثرون أطلقُوا حكايةَ الخلاف في وجُوبه، وحكوهُ عن طائفةٍ من السَّلف، كما حكاهُ ابنُ المنذر عن أبي هريرةَ وعمارٍ وعن الإمام مالكٍ.
          والتَّحقيق: ما ذكره ابنُ عبد البرِّ مِن أنه لم يثبتْ في وجوبُه بمعنى كونه فرضاً يأثمُ بتركهِ اختلافٌ بين العلماء المعتبرين، وأنَّ مَن أطلقَ وجوبَه فإنما تبعَ في ذلك ما جاءَ عن النَّبي صلعم مِن إطلاق اسمِ الواجبِ عليه، لكنْ وجوباً لا يقتَضِي الإثم بتركهِ، كما حملوا الأحادِيثَ على ذلك، ثم قال: وقد تبيَّن بهذا أنَّ لفظَ الواجب ليس نصًّا في الإلزام بالشَّيء والعقاب على تركه، بل قد يرادُ به ذلك بأكثريةٍ، وقد يرادُ به تأكدُ الاستحبابِ والطلب. انتهى ملخصاً.
          وأطال في هذا المقام كابن الملقِّنِ وكـ((فتح الباري)) ثم قال الثالث: حكى ابنُ العربي وغيرُه أنَّ بعضَ أصحابهم قالوا: يجزئُ عن الاغتسال للجمعة التطيبُ؛ لأنَّ المقصودَ النظافةُ.
          وقال بعضهم: لا يشترطُ له الماء المطلق، بل يجزئُ بماء الورد ونحوه، وقد عابَ ابن العربي ذلك وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى وأغفَلوا المحافظةَ على التعبُّد بالمعيَّن، والجمعُ بين التعبُّدِ والمعيَّن أولى. انتهى.
          وعكسَ ذلك قولُ بعضِ الشَّافعية بالتيمم فإنه تعبُّدٌ دون نظرٍ إلى المعنى، وأما الاكتفاءُ بغير الماء المطلق فمردودٌ؛ لأنها عبادةٌ لثبوت الترغيب فيها، فتحتاج إلى النية، ولو كانت لمحضِ النظافة لم تكنْ كذلك. انتهى ما في ((الفتح)).
          وأقول: ظاهرُ كلامه قد يوهم أنَّ القولَ بالتيمم ضعيفٌ عند الشافعية، وليس كذلك، فقد قال النوويُّ في ((المنهاج)) وشراحِه: فإنْ عجز عن الماء حسًّا أو شرعاً تيمَّم في الأصحِّ بنيته بدلاً عن الغسل، أو بنية طهر الجمعة فيما يظهر، إحرازاً للفضيلة كسائر الأغسال؛ ولأنَّ القصدَ النظافةُ والعبادة، فإذا فاتت تلكَ بقيتْ هذه.
          قال في ((التحفة)): وهل يكرهُ تركُ التيمم إعطاءً له حكم مبدَّله كما هو الأصل، أو لا لفوات الغرض الأصلي من النظافة؟ كلٌّ محتملٌ. انتهى.