التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الحراب والدرق يوم العيد

          ░2▒ بابُ الحِرَابِ والدَّرَقِ يَوْمَ العِيْدِ.
          949- 950- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ، / عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: (دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلعم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ) الحديث.
          الشَّرْحُ: هذا الحديثُ أخرجَهُ أيضًا عَقِبَ هذا البابِ [خ¦952] وفي بابِ نظرُ المرأة إلى الحبَشَةِ [خ¦5236] وفي باب إذا فاته العيد يُصلِّي ركعتين [خ¦987] [خ¦988] وفي بابِ حُسْنُ العِشرة مع الأهلِ [خ¦5190] وفي بابِ أصحابُ الحِرَابِ في المسجد [خ¦454] وفي باب الدَّرَقُ من الجهاد [خ¦2906] [خ¦2907] فهذه سبعةُ أبوابٍ، وأخرجه مسلمٌ أيضًا.
          و(عَمْرٌو) هذا هو ابنُ الحارِثِ، مصريٌّ ماتَ سنةَ ثمانٍ وأربعينَ ومئة.
          و(أَحْمَدُ) هذا شيخُ البخاريِّ قال الدِّمياطيُّ في «الحاشيةِ»: أحمدُ بنُ صالحٍ ماتَ سنةَ ثمانٍ وأربعين، وابنُ عيسى سنةَ ثلاثٍ وأربعين. وقال الجَيَّانيُّ: أحمدُ هذا نَسَبَهُ ابنُ السَّكَنِ: أبو عليٍّ أحمدُ بن صالحٍ المصريُّ.
          وقال الحاكم: رَوَى البُخاريُّ في كتابِ الصَّلاةِ في ثلاثة مواضِعَ عن أحمدَ عن عبدِ الله بن وهبٍ فقيل: إنَّه أحمد بن صالح، وقيل ابنُ عيسى التَّسْتُرِيُّ، ولا يخلو أنْ يكونَ واحدًا منهما فقدْ رَوَى عنهُمَا في «جامِعِه» ونَسَبَهُمَا في مواضِعَ.
          وذَكَرَ الكَلَاباذِيُّ عن أبي أحمدَ الحافظِ: أحمدُ عن ابنِ وهبٍ في «جامعِ البخاريِّ» هو ابنُ أخي ابنِ وهب. قال الحاكم: وهذا وَهْمٌ وغَلَطٌ، والدَّليلُ على ذلك أنَّ المشايِخَ الَّذينَ تَرَكَ أبو عبدِ الله الرِّوايةَ عنهُم في «الصَّحيح» قد رَوَى عنهُم في سائِرِ مصنَّفاتِه كابنِ صالحٍ وغيرِه، وليسَ عن ابنِ أخي ابنِ وهبٍ روايةٌ في موضعٍ، فهذا يدلُّكَ على أنَّه لم يكتُبْ عنه أو كَتَبَ عنه ثُمَّ تَرَكَ الرِّوايةَ عنهُ أصلًا.
          وقال ابن مَنْدَه: كلُّ ما في البُخاريِّ: حدَّثَنا أحمدُ عن ابنِ وهْبٍ فهو ابنُ صالحٍ، ولم يخرِّج البُخاريُّ عن ابن أخي ابنِ وهْبٍ في «صحيحِه» شيئًا، وإذا حدَّثَ عن أحمدَ بن عيسى نَسَبَهُ.
          قلتُ: وقد ساقَ ابنُ حَزْمٍ هذا الحديثَ مِن طريقِ البُخاريِّ وقال فيه عنه: حدَّثنا أحمدُ بن صالح. ورواه الإسماعيليُّ وأبو نُعَيمٍ عن الحسَنِ بن سُفيانَ حدَّثنا أحمدُ بن عيسى حدَّثنا ابنُ وهْبٍ. وذَكَرَ أبو نُعَيْمٍ أنَّ البُخارِيَّ رواه عن أحمدَ بنِ عيسى. وذكَرَهُ في المناقِبِ في بابِ قِصَّة الحَبَشِ عن يَحيى بن بُكَير حدَّثنا اللَّيثُ عن عُقَيلٍ عن ابن شهابٍ عن عروةَ عن عائشةَ [خ¦3529] [خ¦3530].
          إذا تقرَّر ذلكَ فالكلامُ عليه مِن أوجُهٍ:
          أحدُهَا: الجاريةُ في النِّساء كالغُلامِ في الرِّجَالِ، ويُقال على مَن دُونَ البلوغِ منهُما.
          ثانِيها: معنى (تُغَنِّيَانِ) ترفعَانِ أصواتَهُما بالإنشادِ، وكُلُّ مَن رَفَعَ صوتَه بشيءٍ ووَالَى به مَرَّةً بعْدَ مَرَّةٍ فصوتُه عندَ العرب غناءٌ، وأكثرُهُ فيما شَاقَ مِن صوتٍ أو شَجَا مِن نَغْمَةٍ ولَحْنٍ، ولهذا قالوا: غنَّتِ الحمامُ، ويغنِّي الطَّائِرُ. هذا قول الخطَّابيِّ. وفي روايةٍ له في البابِ بعدَه: ((وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ)) [خ¦952] وللنَّسائيِّ: ((تَضْرِبَانِ الدُّفَّ بالمدِيْنَةِ)).
          وفي قوله: ((وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ)) إرشادٌ إلى أنَّ ذلك ليسَ بالغناءِ الَّذي يُهَيِّجُ النُّفوسَ إلى أمورٍ لا تليقُ، وأنَّهُما لم تتَّخذا الغناءَ صناعةً وعادةً.
          قال القُرْطُبيُّ: ولا خلافَ في تحريمِ هذا الغناءِ لأنَّه مِن اللهْوِ واللَّعِبِ المذمُومِ بالاتِّفَاقِ، فأمَّا ما يسلَمُ مِن المحرَّماتِ فيجوزُ القليلُ منه في الأعراسِ والأعيادِ وشِبْهِهِما، ومذهبُ أبي حنيفة تحريمُه، وبه يقولُ أهلُ العراقِ، ومشهورُ مذهبِنَا ومذهبِ مالكٍ كراهَتُهُ، وقد ألَّفَ النَّاسُ في تحريمِه وإباحتِه تصانيفَ عديدةً، والتَّحقيقُ ما ذكرناهُ، وقد بسطْتُ المسألةَ في «شرحِ المنهاجِ» في الشَّهاداتِ فراجِعْهَا منه تَجِدْ ما يشفِي الغَليلَ.
          ثالثُها: (بُعَاثٌ) بالباءِ الموحَّدةِ ثُمَّ غينٍ معجَمة وتُهمَل وهو المشهور كما قال ابن قُرْقُول، وبعدَ الأَلِفِ ثاءٌ مثلَّثَةٌ، والأَشْهَرُ تَرْكُ صرفِهِ. موضِعٌ مِن المدينة على ليلتينِ، وذَكَرَ ابنُ الأثيرَ أنَّه اسمُ حِصْنٍ، وكان فيه حَرْبٌ بينَ الأوْسِ والخزرجِ. قال: ومَن قالَه بالمعجَمَة فقد صحَّفَ. وقال ابنُ الجوزيِّ: إنَّه يومٌ كانَ الأنصارُ في الجاهلية اقتتلوا فيه وقالوا فيه الأشعارَ، وبقيَتِ الحربُ قائمةً بين الأوسِ والخزرجِ مئةً وعشرين سنةً حتَّى جاء الإسلامُ. قال القُرْطبيُّ: وكان الظُّهورُ فيه للأوْسِ، وذَكَرَ ابنُ التِّينِ أنَّه قُتِلَ فيه صناديدُهُم توطئةً بينَ يدَيْ رسولِ الله صلعم حتَّى لا يطولَ شَغَبَهُ مع الرُّؤَسَاءِ.
          رابعُها: كان الشِّعْرُ الَّذي تُغَنِّيَان به في وصفِ الشَّجاعةِ والحربِ، وإذا صُرِفَ إلى جهادِ الكفَّارِ كان معونةً في أمْرِ الدِّينِ كما سَلَفَ، فأمَّا الغناءُ الَّذي فيه غناءٌ فمحظورٌ كما سَلَفَ. وحاشَا مَن هو دونَ الشَّارِعِ أنْ يُقالَ بمَحْضَرِهِ ذلك فيتْرُكَ النَّكيرَ له، فيُحمَلُ على ما قلناهُ، وقد استجازتِ الصَّحابةُ غِناءَ العَرَبِ الَّذي هو مجردُ الإنشادِ والتَّرَنُّمِ، وأجازُوا الحُدَاءَ وفعلُوهُ بحضْرَةِ الشَّارِعِ، وفي هذا إباحةُ مِثْلِ هذا وما في معناهُ، وهذا ومِثْلُهُ ليسَ بحرامٍ ولا يَجْرَحُ الشَّاهدَ.
          خامسُها: جاء في مسلمٍ أنَّ هذا كانَ أيَّامَ مِنى، وكذا في النَّسائي: ((وَرَسُولُ اللهِ بالمدِيْنَةِ)) وفي مسلمٍ أيضًا: ((وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ)) وقد سَلَفَ في أبوابِ المساجِدِ بابُ أصحابِ الحِراب في المسجد، وذكر فيه حديثًا في ذلك [خ¦454].
          سادِسُها: (مِزْمَارَةُ) بكسْرِ الميم، ورُوي: أَبِمُزْمُورِ الشَّيطانِ؟ بِضَمِّ الميمِ الأُولى وقد تُفتَحُ، وأصْلُهُ صوتُ تصفيرٍ، والزَّمِيرُ: الصَّوتُ الحَسَنُ، يُطلَقُ على الغِناءِ أيضًا.
          قال القُرْطُبيُّ: إنكارُ أبي بكرٍ مستصحِبًا لِمَا كان تقرَّر عندَه مِن تحريمِ اللهوِ والغناءِ جملةً، حتَّى ظنَّ أنَّ هذا من قَبِيلِ ما يُنكَرُ فبادَرَ إلى ذلك قيامًا عنهُ بذلِكَ على ما ظهر، وكأنَّه ما كان بَيَّنَ له أنَّه صلعم قرَّرهُنَّ على ذلك بعْدُ فقال له: (دَعْهُمَا) وعلَّلَ الإباحةَ بأنَّه يومُ عيدٍ، يعني يومَ سرورٍ وفرحٍ شرعِيٍّ فلا يُنكَرُ فيه مِثْلُ هذا.
          وقال المهلَّب: الذي أنكره أبو بكرٍ كثْرَةُ التَّنغِيمِ وإخراجُ الإنشادِ عن وجهِه إلى معنى التَّطريبِ بالألحانِ، ألا تَرَى أنَّه لم يُنْكِر الإنشادَ وإنَّما أنكَرَ مشابَهَةَ الزَّمِيرَ، فما كان مِن الغناءِ الَّذي يجري هذا المجرَى مِن اختلافِ النَّغماتِ وطلبِ الإطرابِ فهو الَّذي تُخشَى فتنَتُهُ واستهواؤُه للنُّفوسِ، وقطْعُ الذَّريعةِ فيه أحسَنُ، وما كان دونَ ذلكَ مِن الإنشادِ ورَفْعِ الصَّوتِ حتَّى لا يَخْفَى معنى البيتِ وما أرادَهُ الشَّاعِرُ بشِعْرِهِ فغيْرُ منهِيٍّ عنه.
          وقد رُوِيَ عن عمَرَ / أنَّه رخَّصَ في غناءِ الأَعرابِ وهو صوتٌ كالحُدِاءِ يُسمَّى النَّصْبَ إلَّا أنَّه رقيٌق. قال عمَرُ لِرَبَاحِ بن المعتَرِفِ: أَسْمِعْ وأَقْصِرِ الْمَسِيرَ، فإذا سَحَرْتَ فارْفَعْ، فَرَفَعَ عَقِيرَتَهُ وتَغَنَّى، فهذا لم يُرَ به بأسٌ لأنَّه حُداءٌ.
          وفي هذا أنَّ مواضِعَ الصَّالحينَ وأهلَ الفضْلِ تُنَزَّهُ عن اللهوِ واللَّغْوِ ونحوِه. وفيه أنَّ التَّابِع الكبيرَ إذا رأى ما يُستنْكَرُ أو لا يليقُ بمجلِسِ الكبيرِ يُنكِرُهُ، ولا يكونُ هذا مِن بابِ الافتِئَاتِ على الكبيرِ، بل هو أدبٌ ورعايةُ حُرمَةٍ وإجلالٌ به. وتَسَجِّيهِ بثوبِه وتحويلُه وجْهَهُ إعراضًا عن اللهوِ ولِئَلَّا يَسْتَحْيِينَ فيقطَعْنَ ما هو مباحٌ لهنَّ، وهذا مِن رأفتِه وحِلْمِه وحُسْنِ خُلُقُهِ.
          سابعُها: قولُها: (بِغِنَاءِ بُعَاثَ) كذا هنا، وفي الباب بعدَهُ: بِمَا تَقَاوَلَتِالأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ. وفي روايةٍ: بما تَقَاذَفَتْ. أي رَمَى به بعضُهُم بعضًا مِن الأشعار. ورُوِيَ: تَعَازَفَتْ. والظَّاهِرُ أنَّه مِن العَزِيفِ كَعَزِيفِ الرِّياحِ وهو دَوِيُّها، ويبعُدُ أنْ يكونَ مِن عَزْفِ اللهوِ وضَرْبِ المعازِفِ.
          ثامنُها: قوله: (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) كذا هنا، وفي باب إذا فاته العيد: ((أَمْنًا بَنِي أَرْفِدَةَ)) يعني مِن الأمْنِ. و(دَوُنَكُمْ) منصوبٌ على الظَّرْفِ بمعنى الإغراء، والمغرَى به محذوفٌ دلَّت عليه الحالَةُ، وهو لَعِبُهم بالحِرَابِ، فكأنَّه قال: دونَكُمُ اللَّعِبُ. والعَرَبُ تُغرِي بعَلَيْكَ وعندَكَ ودونَكَ، وشأْنُها أنْ يتقدَّمَ الاسمُ كما في هذا الحديثِ، وقد يتأخَّرُ شاذًّا كقولِه:
يَا أَيُّها المائحُ دَلْوِي دُونَكَا                     إِنِّي رأَيتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَا
          و(بَنُو أَرْفِدَةَ) لَقَبٌ للحَبَشَةِ أو اسمُ أبيهِم الأقدَمِ، وقيل جنسٌ منهم يرقُصُونُ، وقيل: أرادَ بني الإمَاءِ. و(أَرْفِدَةَ) بفتْحِ الفاءِ وكسْرِها وهو أشهَرُ، وهو في كُتُبِ اللُّغَةِ بالفتْحِ كما قاله ابن التَّينِ.
          وفي نصْبِ ((أَمْنًا)) وجهانِ:
          أحدُهُما: أنَّ المعنى آمِنُوا أَمْنًا ولا تخَافُوا.
          والثَّانِي: أنَّهُ أقامَ المصدَرَ مَقامَ الصِّفَةِ كقولِه: رَجُلٌ صَوْمٌ أي صائمٌ، والمعنى آمِنِينَ. قال ابن التِّينِ: وضُبِطَ في بعضِ الكُتُبِ: <آمِنًا> على وزنِ فاعِلًا، ويكونُ أيضًا بمعْنَى آمِنِينَ اسمٌ للجِنْسِ.
          وقولُه: (حَسْبُكِ؟) هو استفهامٌ، وحُذِفَتْ همزتُه بدليلِ قولِها: (قُلْتُ: نَعَمْ) تقديرُه أَحَسْبُكِ؟ أي هل يكفيكِ هذا القَدْرُ؟
          وقولُه: فَزَجَرَهُمْ. يعني أبا بكْرٍ كما ذَكَرَهُ المهلَّب في «مختصرِه» عن اللَّيثِ، وفي البخاريِّ في باب فواتِ العيدِ: فَزَجَرَهُم عُمَرُ.
          تاسِعُهَا: في فوائِدِهِ:
          الأُولَى: جوازُ اللَّعِبِ بالسِّلاحِ ونحوِه مِن آلاتِ الحرْبِ في المسجِدِ وقد سَلَفَ، ويلتَحِقُ به ما في معناه مِن الأسبابِ الْمُعِينَةِ على الجهادِ، وأنَّ السُّودَانَ يلعبُونَ بمِثْلِ هذا في المسجدِ. وقال ابنُ التِّينِ: كان هذا في أوَّلِ الإسلامِ تعلُّمًا لِقتالِ أعداءِ الله، ونَقَلَ عن أبي الحَسَنِ في «تبصِرَتِه» أنَّه منسوخٌ بالقرآنِ والحديثِ يُريدُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ} [التوبة:18] وَ ((جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ)) لكنَّ هذا ضعيفٌ.
          قال ابنُ التِّين: حمْلُ السِّلاحِ والحِرَابِ يومَ العيدِ لا مَدْخَلَ له عندَ العلماءِ في سُنَّةِ العيدِ ولا في هيئةِ الخروجِ إليه، ولا استحبَّهُ أحدٌ مِن العلماءِ ولا نَدَبَ إليه، ويمكنُ أن يكونَ صلعم محارِبًا خائفًا مِن بعضِ أعدائِه فرأَى الاستعدادَ والتَّأهُّبَ بالسِّلاحِ، وإذا كان كذلكَ فهو جائزٌ عندَ العلماءِ. قال: ولعِبُ الحبشةِ ليسَ فيه أنَّ الرَّسولَ خَرَجَ بهذا في العيدِ ولا أَمَرَ أصحابَه بالتأهُّبِ بها، ولم تَكُنِ الحَبَشَةُ للنَّبيِّ صلعم حَشْدًا ولا أنصارًا وإنَّما هم يلعَبُونَ.
          قال: وفائدِةُ هذا الحديثِ إباحةُ النَّظَرِ إلى اللهْوِ إذا كان فيه تدريبُ الجوارِحِ على تقليبِ السِّلاحِ لِتَخِفَّ الأيدِي بها في الحربِ، ولك أن تقولَ: البُخاريُّ بوَّبَ لذلكَ بيانًا للجوازِ أو بيانًا لضعفِ مُرْسَلِ أبي داودَ عن الضَّحَّاكِ بن مُزَاحِمٍ قال: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم أن يُخْرَجَ يومَ العِيْدِ بالسِّلَاحِ)) ومخالَفَةً لِمَا ذكرَهُ هو بعْدُ مِن قولِ ابن عمرَ للحَجَّاج وجاءَه يعودُه: حَمَلْتَ السِّلاحَ في يومٍ لم يكنْ يُحمَلُ فيه [خ¦966].
          ولابن ماجه بإسنادٍ جيِّدٍ عن ابن عَمْرٍو عِيَاضٍ الأشعريِّ وشهدَ عيدًا بالأنبَارِ فقال: ((مَا لِي لَا أَرَاكُمْ تُقَلِّسُونَ كَمَا كَانَ يُقَلَّسُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم؟!)) وله أيضًا بإسنادٍ جيِّدٍ عن قيس بن سعد قال: ((ما كانَ شيءٌ علَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم إلَّا وَقَدْ رَأَيْتُهُ إلَّا شيءٌ واحدٌ، فإنَّ رسولَ اللهِ صلعم كان يُقَلَّسُ له يومَ الفِطْر)) والتَّقليسُ اللَّعِبُ.
          الثَّانيةُ: ما كان عليه صلعم مِن الخُلُق الحَسَنِ، وما ينبغي للمرْءِ أن يمْتَثِلَهُ مع أهلِه مِن إيثارِه مسارَّهم فيما لا حَرَجَ عليهِم فيه.
          الثَّالثةُ: قال ابنُ حزْمٍ: الغناءُ واللَّعِبُ والزَّفْنُ في أيَّاِم العيدَيْنِ حَسَنٌ في المسْجِدِ وغيرِه. وساقَ هذا الحديثَ وحديثَ مسلمٍ مِن طريقِ أبي هُريرة قال: بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلعم بِحِرَابِهِمْ إذْ دَخَلَ عُمَرُ فَأهْوَى إِلَيْهِم لِيَحْصِبَهُم فقال: ((دَعْهُمْ يَا عُمَرُ)) ثُمَّ قال: أَيْن يقعُ إنكارُ مَن أنكَرَ مِن إنكارِ سَيِّدَيْ هذهِ الأُمَّةِ بعدَ نبيِّها؟! وقد أنكَرَ صلعم عليهِمَا إنكارَهُما فَرَجَعَا.
          الرَّابعةُ: رُخصَةُ المثاقَفَةِ في المسجدِ.
          الخامسةُ: راحةُ النُّفوسِ في بعض الأوقاتِ وراحةُ مَن ينظُرُ إليهم ليستعينَ بذلكَ على ما وراءَهُ مِن أداءِ الفرائضِ لأنَّ النَّفْسَ تمَلُّ، ولا شكَّ أنَّ العيدَ موضوعٌ للرَّاحَةِ وبَسْطِ النَّفْسِ إلى المباحاتِ والأَخْذِ بِالطَّيِّبَاتِ وما أحلَّ اللهُ مِن اللَّعِبِ والأكْلِ والشُّرْبِ والجِمَاعِ، أَلَا تَرَى أنَّه أباحَ الغناءَ مِن أجْلِ العيدِ حيثُ قال: ((دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ)) وكان / أهلُ المدينةِ على سيرةٍ مِن أَمْرِ الغناءِ واللهْوِ، وكانَ صلعم وأبو بكرٍ على خِلافِه، ولذلكَ أنكرَ أبو بكرٍ ذلك، فرخَّصَ في ذلكَ للعيدِ وفي ولائمِ إعلانِ النِّكاحِ.
          السَّادسةُ: جوازُ نَظَرِ النِّساءِ إلى لَعِبِ الرِّجالِ مِن غيرِ نَظَرٍ إلى نَفْسِ البَدَنِ، وأمَّا نظرُها إلى وجهِه بغيرِ شهوةٍ ومخافةِ فتنةٍ فالأصحُّ عندَنَا أنَّه حرامٌ لقولِه تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ولقولِه صلعم لأمِّ سَلَمَة وأمِّ حبيبَةَ: ((احْتَجِبا عَنْهُ)) أي عن ابنِ أمِّ مكتُومٍ، فقالتا: إنَّه أعْمَى لا يُبصِرُنا. فقال: ((أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا؟ أليس تُبْصِرَانِهِ؟)) حسَّنه التِّرمِذِيُّ.
          وأُجيب عن حديثِ عائشةَ بجوابينِ:
          أقواهُما: أنَّه ليس فيه أنَّها نظَرَتْ إلى وجوهِهِم وأبدانِهم، وإنَّما نَظَرَتْ إلى لَعِبِهِم وحِرَابِهم، ولا يلزَمُ مِن ذلكَ تعمُّدُ النَّظَرِ إلى البَدَنِ، وإن وقَعَ بلا قَصْدٍ صرفَتْهُ في الحال.
          والثَّانِي: لعلَّ هذا قبْلَ نزولِ الآيةِ في تحريمِ النَّظَرِ، أو أنَّها كانت صغيرةً قبْلَ بلوغِها فلم تكُنْ مكلَّفةً على قولِ مَن يقولُ إنَّ الصغيرَ المراهقَ لا يُمنَعُ النَّظَرَ.
          السَّابعةُ: مِن تراجِمِ البُخاريِّ على هذا الحديثِ بابُ إذا فاته العيد يُصلِّي ركعتين، وستعْلَمُ ما فيه مِن الخلافِ هناك، ورُوِيَ عن ابن مسعودٍ والضَّحَّاكِ أنَّه يصلِّي أربَعًا إذا فاتَتْهُ الصَّلاةُ معَ الإمامِ، وقال عليٌّ فيمن لا يستطيع الخروجَ إلى الجَبَّانَةِ لضَعْفٍ: يُصلِّي أَرْبعًا.
          وفيه أيضًا الرِّفْقُ بالمرأَةِ الصَّغيرةِ واستجلابُ مَوَدَّتِها. وأنَّه لمْ يَعِبْ على أبي بكرٍ تأويلَهُ وقولَه: (مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ) لأنَّهُ أرادَ الخَيْرَ. وفيه خوفُ عائشةَ مِن حِدَّةِ أبيها. وفيه سَتْرُ الشَّارِعِ إيَّاها ولعلَّهم لمْ يكونُوا يرَوْنَها. وفيه إغراءُ الشَّارِعِ إيَّاهم. وأنَّ إظهارَ السُّرورِ في العيدَينِ مِن شِعار الدِّينِ والاستراحةِ، وفي حديثٍ آخَرَ: ((إنَّها أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ)) وفي بعضِ الأخبارِ: ((وبِعَالٍ)).