التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الخروج إلى المصلى بغير منبر

          ░6▒ بَابُ الخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى بِغَيْرِ مِنْبَرٍ.
          956- ذَكَرَ فيه حديثَ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، وقد سَلَفَ في بابِ تركُ الحائضِ الصَّومَ مِن الطَّهارةِ مختصَرًا [خ¦304].
          وَ(زَيْد) فيهِ هو ابن أسْلَمَ العَدَويُّ.
          وفيه هنا مِن الفَوائِدِ: أنَّ الصَّلاةَ قَبْلَ الخُطبَةِ. وأنَّه كان يخطُبُ قائمًا على غيرِ مِنْبَرٍ، وهو دليلُ التَّرجَمَةِ، وهو مِن بابِ التَّواضُعِ للرَّبِّ جلَّ جلالُه ولأَنَّه كان في فَضَاءٍ ولا يغيبُ عن أَحَدٍ منهُم النَّظَرُ إليهِ، فلمَّا كَثُرَ النَّاسُ زَمَنَ عثمانَ خَشِيَ ألَّا يَسْمَعَ أقصاهُم فبُنيَ له مِنبْر مِن طينٍ، قيل: بنَاهُ كَثِيرُ بن الصَّلْت _وقيل: إنَّما بنَاهُ مروانُ_ وفي «المدوَّنَةِ» أنَّه بناه لِعثمانَ أيضًا، وهو أوَّلُ مَن أحدَثَهُ.
          وفي قولِه: (فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ) دلالةٌ على أنَّ أوَّلَ مَن أحدَثَ الخُطبةَ قبْلَ الصَّلاةِ مروانُ. وذَكَرَ ابنُ بطَّال وابنُ التِّينِ عنْ مالكٍ أنَّه قال في «المبسوطِ»: أوَّلُ مَن فَعَلَهُ عثمانُ ليدرِكَ النَّاسُ الصَّلاةَ.
          وحَكَى ابنُ التِّينِ عن يوسفَ بنِ عبدِ الله بن سَلَامٍ أنَّه قال: أوَّلُ مَن بدأَ بها قبْلَ الصَّلاةِ يومَ الفِطْرِ عمرُ بن الخطَّاب، وعن ابنِ شهابٍ: أوَّلُ مَن فَعَلَه معاويةُ. وخالفَ ابنُ بطَّالٍ فقال عن يوسُفَ هذا: أوَّلُ مَن فَعَلَه عثمانُ، ولعلَّه لا يَصِحُّ عن عثمانَ لأنَّه سيأتي في بابِ الخطبةُ بعدَ العيد عن ابن عبَّاسٍ قال: ((شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ العِيْدَيْنِ قَبْلَ الخُطْبَةِ)).
          ورَوَى الشَّافِعِيُّ عن إبراهيمَ بن محمَّدٍ حَدَّثَني داودُ بن الحُصَين عن عبدِ الله بن يزيدٍ الخَطْمِيِّ ((أنَّ النَّبيَّ صلعم وأبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ كانوا يبدؤون بالصَّلاةِ قبلَ الخطبةِ حتَّى قَدِم معاوية فقدَّمَ معاويةُ الخطبَةَ)) وهذا يدلُّ على أنَّ ذلكَ لم يَزَلْ إلى آخِرِ زمنِ عثمانَ، وعبدُ الله صحابيٌّ، وإنَّما قدَّم معاويةُ في حالِ خلافتِه، وحديثُ أبي سعيدٍ هذا أوَّلَ قَدْمَةٍ قَدِمَها مروانُ، ويمكِنُ الجمْعُ بأنَّ مروانَ كان أميرًا على المدينةِ لمعاويةَ فَأَمَرَهُ معاويةُ بتقديمِها فَنَسَبَ أبو سعيدٍ التَّقديمَ إلى مروانَ لمباشرَةِ التَّقديمِ، ونَسَبَهُ عبدُ الله إلى معاويةَ لأنَّه أمَرَ به.
          وَرَوَى القاضي أبو بكرِ بن العَرَبِيِّ عن سُفيان أنَّ أوَّلَ من قدَّمَها عثمانُ، وروايةُ «الموطَّأ» والبُخاريِّ أنَّهُ لم يفعلْ ذلك، وعن مالكٍ: أنَّ أوَّلَ مَن قدَّمها عثمانُ، وهي باطلةٌ لا يُلتَفَتُ إليها.
          ومِمَّن قال بتقديمِ الصَّلاةِ على الخُطبَةِ أبو بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٌّ والمغيرةُ وأبو مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ، وهو قولُ الثَّورِيِّ والأوزاعِيِّ وأبي ثَورٍ وإسحاقَ والأئمَّةِ الأربعةِ وجمهورِ العلماءِ، ورُوِيَ عن عثمانَ: لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ خَطَب قبلَ الصَّلَاةِ. كما سَلَفَ، ومِثْلُهُ عن ابنِ الزُّبَيرِ ومروانَ كما نَقَلَه ابنُ المنذرِ. وعندَ الحنَفِيَّةِ والمالكيَّةِ لو خَطَبَ قَبْلَها جازَ وخالفَ السُّنَّةَ ويُكرَهُ، ولا يُكرَهُ الكلامُ عندَها.
          وقولُه: (إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاَةِ) المرادُ بالجلوسِ لِسَمَاعِها، وهو مأمورٌ به لِمَن شَهِدَ الصَّلاةَ مطلقًا، وعدمُ الجلوسِ لأنَّه كان يُؤذِي في خُطَبِهِ مَن لا يحِلُّ أذاهُ فينْصَرِفُ النَّاسُ لِئَلَّا يسمعُوا ذلكَ / فيه، ولَعَلَّ أبا سعيدٍ لَمَّا ذَكَرَ له مروانُ عُذْرَه بيَّنَ له وجْهَه، ولذلك اتَّصَلَ العمَلُ به دونَ إنكارٍ مِن جمهورِ النَّاسِ حتَّى قال عطاءٌ: لا أدري مَن أحدَثَهُ. ولا ينبغي أن يُؤَمَّرَ لِصَلَاةٍ مَن يؤذِي مَن لا يَحِلُّ له أذاهُ في خُطْبَتِه، فمَن قَدَرَ أن يأتِيَ بعدَ الخُطبةِ للصَّلاةِ فَحَسَنٌ، قاله ابنُ التِّين.
          فرْعٌ: الخُطبةُ للعيدِ سُنَّة بأركانِ الجُمعةِ، وعندَ بعضِ الحنفيَّةِ أنَّ شروطَ العيدِ كالجُمعةِ مِن المِصْرِ والقَوْمِ والسُّلطانِ والوقتِ، وعن عبدِ الله بن السَّائبِ: لَمَّا صلَّى ╕ قال: ((إنَّا نَخْطُبُ فَمَن أَحَبَّ أنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ)) رواه أبو داودَ والنَّسائيُّ وابن ماجه، وهو دالٌّ على سُنِّيةِ الخُطبةِ إذْ لو كانتْ واجبةً لوَجَبَ الجلوسُ لاستماعها.
          وإنكارُ أبي سعيدٍ كانَ على معنى الكَرَاهَةِ، ولذلكَ شَهِدَ مع مروانَ العيدَ، ولو كان ذلك مؤثِّرًا لَمَا شَهِدَ الصَّلاةَ معه.
          وبُنْيَانُ كَثِيرِ بن الصَّلْت للمِنْبَرِ يدلُّ على أنَّهُ كانَ يخطُبُ قبْلَ ذلكَ للعيدِ على غيرِ مِنبَرٍ، وهو ما بوَّبَ له البُخاريُّ، وقد جاء في حديثِ جابرٍ بعدَ هذا: ((فَلَمَّا فرَغَ نَبِيُّ اللهِ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءُ)) يَدُلُّ على أنَّهُ كان على مرتَفَعٍ، وكذا قولُه في الحديث (فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ) وعن بعضِهم: لا بأسَ بإخراجِ المِنبَرِ، وعن بعضِهِم: كُرِهَ بنيانُه في الجَبَّانةِ ويخطُبُ قائمًا أو على دابَّتِهِ، وعن أشهبٍ: خروجُ المِنبَرِ إلى العيدين واسعٌ، وعن مالكٍ: لا يُخرِجُ فيهِمَا مَن شأْنُه أن يخطُبَ إلى جانِبِه، وإنَّما يخطُبُ عليه الخلفاءُ.
          ومِن فوائِدِ الحديثِ: مواجهةُ الخطيبِ للنَّاسِ وأنَّهُم بينَ يديْهِ. والبروزُ إلى مُصَلَّى العيد والخروجُ إليه وأنَّه مِن سُنَّتِها ولا تُصلَّى في المسجدِ إلَّا مِن ضرورةٍ، روى ابن زيادٍ عن مالكٍ قال: السُّنَّةُ الخروجُ إليها إلى المصلَّى إلَّا لأهلِ مكَّةَ ففي المسجدِ.
          وفيه كما قال المهلَّب: أنَّه يُحْدَثُ للنَّاسِ أمورٌ بقَدْرِ الاجتهادِ إذا كان صلاحًا لهم، وذلك أنَّه صلعم خطَبَ للجُمعةِ قَبْلَهَا فَتَرَكَ ذلك عثمانُ، والعِلَّةُ أوجَبَتْ ذلك مِن افتراقِ الأُمَّةِ لسُنَّتِه في تقديمِه الخطبةَ في الجُمعة، فليسَ بتغييرٍ وإنَّما تَرَكَ فِعْلًا بِفِعْلٍ، ولم يَتْرُكْ لِغَيرِ فِعْلِ الشَّارِعِ، وإنَّما كانت قَبْلَ الصَّلاة لقولِه تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة:10] فعَلِمَ الشَّارعُ مِن هذه الآيةِ أنْ ليسَ بعدَها جلوسٌ لِخُطبَةٍ ولا لغيرِها.
          وفيه وعْظُ الإمامِ في العيدِ، ووصيَّتُه وأمْرُهُ، وعلى ذلك شأنُ الأئِمَّةِ. وفيه أيضًا جَذْبُ ثيابِ الإمَامِ ليَرْجِعَ للصَّوابِ. وفيه حَلْفُ الوَاعِظِ والمحدِّث على تصديقِ حديثِه. وفيه أنَّ الزَّمانَ تغيَّرَ في زمَنِ مروانَ عمَّا كان عليه.
          فائدة: كَثِيرُ بن الصَّلْت هذا هو ابن مَعْدِي كَرِب أبو عبدِ الله الكِنْدِيُّ أخو زُبَيْدٍ عِدادُهُم في بَنِي جُمَح، وُلد في عهدِ رسولِ الله صلعم، وسمَّاه كَثِيرًا وكان اسمُه قَلِيلًا، وكان له شَرَفٌ وحالٌ جميلةٌ في نفسهِ، وله دارٌ كبيرةٌ بالمدينةِ في المصَلَّى، وقِبْلَةُ المصَلَّى في العيدينِ إليها، كان كاتبًا لعبدِ الملِكِ بن مروانَ على الرَّسائلِ. قال العِجْلِيُّ: مدنيٌّ تابعيٌّ ثِقَةٌ.