التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من ادعى إلى غير أبيه

          ░29▒ بَابُ مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ.
          6766- 6767- ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ سَعْدٍ ☺: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالجنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ). فَذَكَرْتُهُ لَأَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          6768- وحديثَ أَبِي هُرَيْرَة ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ).
          وقد سَلَفَا: الأوَّلُ في المغازي [خ¦4326] والثَّاني في أخبارِ الأنبياءِ.
          فإنْ قلتَ: فما معنى هَذا وقد انتسب بعضُ الأخيارِ إِلَى غيرِ أبيه كالمقدادِ بن الأسودِ وإنَّما هو ابنُ عَمْرٍو، ومنهم مِن يُدْعَى إِلَى غيرِ مولاه الَّذي أعتقهُ كسالمٍ مولَى أبي حُذَيفةَ، وإنَّما هو مولى امرأةٍ مِن الأنصارِ؟
          قيل: لا يدخلُ هذا في معنى مَا ذُكِرَ، وذلك أنَّ الجاهليَّةَ كانوا لا يستنكرون أنْ يتبنَّى الرَّجُلُ منهم غيرَ ابنِه الَّذي خرجَ مِن صُلبه فيُنسَبَ إليه، وَلا أنْ يتولَّى مَن أعتقَه غيرَه فيُنسَبَ ولاؤُه إليه، ولم يَزَلْ ذلك أيضًا في أوَّلِ الإسلام حتَّى نزلتْ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] وَنزلتْ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}الآية [الأحزاب:5] فَنُسِبَ كلُّ واحدٍ منهم إلى أبيه، ومَن لم يُعرَفْ لَه أبٌ ولا نَسَبٌ عُرِفَ مولاهُ الَّذي أعتقهُ وأُلحِقَ بولائِه منه، غيرَ أنَّه غَلَبَ على بعضِهم النَّسَبُ الَّذي كان يُدعَى به قبْلَ الإسلام، فكان المعروفَ لِأَحَدِهم إذا أراد تعريفَه بأشهرِ نسبِهِ عرَّفَه به مِن غيرِ انتحالِ المعروفِ به، ولا تحوُّلٍ به عن نسبِه وأبيه الَّذي هو أبوه حقيقةً رغبةً عَنْهُ، فلم تلحقْهُم بذلك نَقيصةٌ، وإنَّما لَعَنَ الشَّارعُ المتبرِّئَ مِن أبيهِ والمدَّعِيَ غيرَ نَسَبِه، فمَن فَعَلَ ذلك فقد رَكِبَ مِن الإثمِ عظيمًا وتحمَّل مِن الوِزْرِ جسيمًا، وَكذلك المنتمي إلى غيرِ مواليه.
          فإنْ قلتَ: فهلْ يُقال للرَّاغِبِ عن الانتماءِ إِلَى غيرِ أبيه ومواليه كافرٌ بالله؟ كما رُوِيَ عن الصِّدِّيق أنَّه قال: كُفْرٌ باللهِ ادَّعاء نسبٍ لا يُعْرَفُ، ورُوِيَ عن عُمَرَ أنَّه قال: كَاَنَ ممَّا يُقرَأُ في القرآنِ: لا ترغبُوا عن آبائِكم فإنَّه كُفْرٌ بكم. قيل: ليس معناه الكُفْرُ الَّذي يُستَحَقُّ عليه الخلودُ في النَّارِ، وإنَّما هو لِحَقِّ أبيه ومواليه، كقولِه ◙ في النِّساء: ((يَكْفُرْنَ العَشِيرَ)) والكُفْرُ في لغةِ العربِ التَّغطيةُ للشَّيءِ والسِّترُ له كقولِه:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
          فكأنَّه تغطيةٌ منه عَلَى حقِّ الله فيمَن جعله لَه والدًا، لا أنَّ مَن فعل ذَلِكَ كافرٌ بالله حَلالُ الدَّمِ.