التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: «لا نورث ما تركنا صدقة»

          ░3▒ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم:(لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ)
          6725- 6726- 6727- ساق فِيْهِ حَدِيْثَ عائِشَةَ ♦ كذلكَ مِن طريقين.
          6728- وحَدِيْثَ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فِيْهِ مُطوَّلًا.
          6729- وَحَدِيْثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ ☻، وَقَد سَلَفَ فِي الخُمُسِ بيانُ ذَلِكَ وَاضحًا.
          فإنْ قلتَ: كيفَ تناولَ عليٌّ والعبَّاسُ ☻ منها؟ قلتُ: إِنَّمَا حَرُمَتْ عليهم الصَّدقةُ الواجبةُ أو أكَلَا بِحقِّ العَمَلِ. قال ابنُ جريرٍ: وعَمِلَ الصِّدِّيقُ والفاروقُ بما دلَّ عليه ظاهرُ الخبرِ فيما كَانَ له ◙ فِي فَدَكٍ وخَيْبرَ وغيرِهما، فَفَعَلَا مَا كَانَ يفعلُه فِي حياتِه، وَذَهبَ عُثمانُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ للقَيِّمِ بعدَه يصرِفُه فيما يراه ولذلك أقطعَهُ مروانَ. قال القاضي أبو بكرٍ: وَلا طَعْنَ عليه فِيْهِ لاعتقادِه السَّالفِ.
          وقَوْلُهُ: (لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا...) إِلَى آخرِه، نهاهُم عَنْهُ عَلَى غيرِ قَطْعٍ أنَّه لا يُخلِّف دِينارًا ولا دِرهمًا، ويجوزُ أَنْ يملِكَ ذَلِكَ قبل موتِهِ فنهاهم عَن قِسمتِه، وَلأنَّه قَالَ: (لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي) عَلَى الخبرِ وتكونُ الرِّوايةُ فِيْهِ برفْعِ الميمِ عَلَى معنى: ليس يَقْتَسِمُ. قال ابنُ التِّين: وَكذلكَ قَرَأتُه هنا وقُرِئ أَيضًا كذلك فِي «الموطَّأ».
          وقولُه: (ونَفَقَةِ نِسَائِي) سَبَبُهُ أنَّهنَّ محبوساتٌ عندَه، فإنَّهنَّ مُحرَّماتٌ على غيرِه بِنَصِّ القُرآنِ.
          وفي قَوْلِه: (لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي) دِلالةٌ عَلَى جوازِ الوقفِ، وأنَّه يجري مَجْرَى الوفاةِ كالحياةِ ولا يُباعُ ولا يُملَّكُ، كما حَكَمَ الشَّارعُ فيما أفاءَ اللهُ عليه بأنَّه لا يُورَثُ وَلكن يُصرَفُ لِمَا ذَكَرَهُ، والباقي لمصالحِ المسلمين، ويَتَبَيَّنُ فسادُ قولِ أبي حَنِيفةَ فِي إبطالِه.
          وقد أسلفْنا هناك أَنَّ معنى قَوْلِه: (لَاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ) هُو مِن معنى قولِه: ((إنَّ آلَ محمَّدٍ لا تحلُّ لهم الصَّدقةُ)) ووجهُ ذلك واللهُ أعلمُ أنَّه لَمَّا بعثَهُ اللهُ إلى عبادِهِ، ووعدَهُ على التَّبليغِ لدِينِه والصَّدْعِ بأمرِه الجنَّةَ وأَمَرَه ألَّا يأخذَ منهم عَلى ذلك أجرًا وَلا شيئًا مِن متاعِ الدُّنيا بقولِه تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:86] وكذلك سائرُ الرُّسُلِ في كتابِ الله كلِّهم يقولُ: لا أسألكُم عليه مالًا وَلا أجرًا إنْ أجرِيَ إلَّا عَلى اللهِ، وَهو الجنَّةُ، أرادَ صلعم ألَّا يُنسَبَ إليه مِن متاعِ الدُّنيا شيءٌ يكونُ عند النَّاسِ في معنى الأجرِ والثَّمنِ، فلم يَحِلَّ له شيءٌ مِنها؛ لأنَّ مَا وَصَلَ إلى المرءِ وأهلِه فهو واصلٌ إليه، فلذلك والله أعلم حرَّمَ الميراثَ عَلى أهلِه لئلَّا يُظنَّ به أنَّه جمعَ المالَ لِورَثَتِهِ، كَما حرَمَهم الصَّدقاتِ الجاريةَ على يديهِ في الدُّنيا لئلَّا يُنسَبَ إلى ما تبَّرأَ منه في الدُّنيا، وفي هذا وجوبُ قطعِ الذَّرائع.
          وَقد رَوَى ابنُ عُيَينةَ عَن أبي الزِّناد عن الأَعْرَجِ عن أبي هُرَيرةَ ☺ أنَّ النَّبيَّ صلعم قَال: ((إنَّا مَعْشَرَ الأنبياءِ / لَا نُورَثُ مَا تركْنا صَدقةٌ)) فهذا عامٌّ في جميعِ الأنبياءِ.
          وَلا تعارُضَ بين هَذَا وقولِه تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل:16] لأنَّ المرادَ إرْثُ النُّبوَّةِ والعِلم والحُكْمِ، وَكذلك قولُه تَعَالَى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] المرادُ النُّبوَّةُ والعِلمُ لأنَّ ذَلِكَ إِذَا صار إِلَى وَلَدِه لَحِقَهُ مِن الفَضْلِ أكثرُ ممَّا يلحقُهُ إِذَا صار ذَلِكَ إِلَى غيرِ ولدِه لقولِه ◙: ((إنَّ الرَّجل ليُرفَعُ بدعاءِ ولَدِهِ مِن بعدِهِ)) فرَغِبَ زكريَّا أَنْ يَرِثَ علمَهُ ولدُهُ الَّذِي يخرُجُ مِن صُلبِه، فيكون تقديرُ الآيَةِ عَلَى هَذَا: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} [مريم:5] وهم بنو العمِّ والعَصَبةُ، أنْ يصيرَ إليهم العِلمُ والحكمةُ مِن بعدي، ويصيرُ ذلك إلى وَلدِي أحبُّ إليَّ، فأضمَرَ ذلك.
          وقال أبو عليٍّ الفَسَويُّ: الخوفُ لا يكون مِن الأعيانِ وإنَّما يكونُ ممَّا يُؤوَّلُ بها، فإِذَا قيل: خِفتُ اللهَ وخِفتُ النَّاسَ، فالمعنى في ذلك: خِفتُ عِقابَ اللهِ وَمؤاخذتِه وملامةَ النَّاسِ، فكذلك قولُه: {خِفْتُ الْمَوَالِيَ}أي خِفتُ بني عمِّي، فحذفَ المضافَ، والمعنى خِفتُ تضييعَهم الدِّين وكيدَهم إيَّاه، فسأل ربَّه تَعَالَى وليًّا يرث نبوَّتَه وَعِلْمَهُ لئلَّا يضيعَ الدِّين، ويُقوِّي ذلك مَا رُوِيَ عن الحَسَنِ البَصْرِيِّ في قولِه: {يَرِثُنِي}أي نُبوَّتي.
          وفي قولِه: (إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ...) إِلَى آخرِه ما يدلُّ أنَّ الَّذي سألَ ربَّه أنْ يرثَ ولدُهُ النُّبوَّةَ لا المالَ، وَلا يجوزُ على نبيِّ الله صلعم أنْ يقول: أخافُ أنْ يَرِثني بنو عمِّي وعَصَبتي ما فرضَ اللهُ لهم مِن مالي، وكَان الَّذي حَمَلَهم على ذلك ما شاهدوه مِن تبديلِهم الدِّينَ وقَتْلِهُمُ الأنبياءَ.