شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كراهية الخلاف

          ░26▒ بابُ كَرَاهِيَةِ الاِخْتِلَافِ(1).
          وفيه: جُنْدَبٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (اِقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ، فَقُومُوا عَنْهُ). [خ¦7364]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ: (لَمَّا حُضِرَ النَّبيُّ صلعم وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ منهِمْ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ، فقَالَ(2): هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، قَالَ عُمَرُ(3) ☺: إِنَّ النَّبيَّ صلعم غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالاخْتِلافَ عِنْدَ النَّبيِّ صلعم، قَالَ: قُومُوا عَنِّي. فقَالَ(4) عُبَيْدُاللهِ: فَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلعم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ). [خ¦7366]
          اختلف العلماء في هذا الباب فذكر ابن الباقلَّاني عن الشَّافعي أنَّ النَّهي عنده على التَّحريم والإيجاب وقالَه كثير مِن النَّاس، وقال الجمهور مِن أصحاب مالك وأبي حنيفة والشَّافعي وجميع أهل الظَّاهر: النَّهي عن الشَّيء يدلُّ على فساد المنهيِّ عنه.
          قال المؤلِّف: وهذا يدلُّ(5) أنَّه عندهم على التَّحريم والإيجاب، وكذلك الأمر عند الدَّهماء مِن الفقهاء وغيرِهم موضوع لإيجاب المأمور وحَتْمِه إلَّا أن يقوم دليل(6) على أنَّه ندب، وحكى أبو التَّمام عن مالك أنَّ الأمر عنده على الوجوب، وإلى هذا ذهب البخاري في هذا الباب إلى أنَّ النَّهي والأمر على الوجوب إلَّا ما قام الدَّليل على خلاف ذلك فيه، وذهبت الأشعريَّة إلى أنَّ النهي لا يقتضي التَّحريم، بل يتوقَّف فيه(7) إلى أن يرد الدَّليل.
          قال ابن الطَّيِّب: وقال هذا فريق مِن الفقهاء. قال: وقال كثير مِن أصحاب الشَّافعي: إنَّ الأمر موضوع للنَّدب إلى الفعل فإن اقترن به ما يدلُّ على كراهية تركِه مِن ذمٍّ أو عقاب كان واجبًا، وقال به كثير مِن الفقهاء، واستشهد / عليه الشَّافعي بقولِه تعالى: {وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة:282]، وأمثاله ممَّا ورد الأمر(8) به على سبيل النَّدب. قال ابن الطَّيِّب: وقد دلَّ بعض كلامِه على أنَّ مذهبَه الوقف. وقال أبو الحسن الأشعري وكثير مِن الفقهاء والمتكلِّمين: إنَّه محتمل للأمرين. قال ابن الطَّيِّب: وهذا الَّذي نقول به.
          قال غيرُه: والحجَّة للجماعة أنَّ النَّهي على التَّحريم أنَّه موجب اللُّغة ومقتضاها، فإن مَن فعل ما نهي عنه استحقَّ اسم العصيان لأنَّه لا ينهى إلا عن قبيح قبل النَّهي، وعمَّا هو له كاره، وقد فهمت الأمَّة تحريم الزِّنا، ونكاح المحرَّمات، والجمع بين الأختين، وتحريم بيع الغرر، وبيع ما لم يقبض بمجرد نهي الله تعالى ونهي رسولِه عن ذلك لا شيء سواه.
          قال أبو التَّمَّام: وأمَّا الحجَّة لوجوب الأوامر(9) فإنَّ الله تعالى أطلق أوامرَه في كتابِه ولم يقرِنْها بقرينة، وكذلك فعل النَّبيُّ صلعم فعلم أنَّ إطلاق الأمر يقتضي وجوبَه، ولو افتقر إلى قرينة لقرنت به. والعرب لا تعرف القرائن، وإنَّما هو شيء أحدثَه متأخروا المتكلِّمين فلا يجوز أن يقال: إنَّ لفظ الأمر لا تأثير له في اللُّغة وأنَّه يحتاج إلى قرينة، وقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63]، فوجب بهذا الوعيد حمل الأمر على الوجوب.
          وحجَّة الَّذين قالوا بالوقف وطلب الدَّليل على المراد بالأمر أنَّ الأمر قد يرد على معان، فالواجب أن ينظر فإن وجد ما يدلُّ على غير الواجب حمل عليه، وإلا فظاهرُه الوجوب، لأنَّ قول القائل: افعل لا يفهم منه لاتفعل ولا افعل إن شئت، إلَّا أن يصلَه بما يعقل به التَّخيير، فإذا عدم ذلك وجب تنفيذ الأمر، واحتجُّوا على وجوب طلب الدَّليل والقرينة على المراد بالأمر، فقالوا: اتَّفق الجميع على جنس الاستفهام عن(10) معنى الأمر إذا ورد هل هو على الوجوب أو النَّدب؟ ولو لم يصلح استعمالُه فيه لقبح الاستفهام عنه، لأنَّه لا يحسن أن يستفهم هل أريد باللَّفظ ما لا يصلح إجراؤُه عليه إذ(11) لا يصلح إذا قال القائل: رأيت إنسانًا. أن يقال له: هل رأيت إنسانًا أو حمارًا. وحسن أن يقال له: أذكرًا رأيت أم أنثى لصلاح وقوعِه عليهما. وقد ثبت قبح الاستفهام مع القرائن الدَّالَّة على المراد بالمحتمل مِن اللَّفظ، وإنَّما يسوغ الاستفهام مع التباس الحال وعدم القرائن الكاشفة عن المراد.
          قال المؤلِّف: وما ذكر البخاري في هذا الباب مِن الآثار يبطل هذا القول، لأنَّه صلعم حين أمرَهم بالحلِّ وإصابة النِّساء بيَّن لهم أن أمرَه إيَّاهم بإصابة النِّساء ليس على العزم، ولولا بيانُه ذلك لكانت إصابتُهم للنِّساء واجبة عليهم، وكذلك بيَّن لهم صلعم بنهيه النِّساء عن اتِّباع الجنائز أنَّه لم يكن نهي عزم ولا تحريم، ولولا بيانُه ذلك لفهم مِن النَّهي بمجردِه التَّحريم، وكذلك بيَّن لهم(12) بالقيام عن القراءة عند الاختلاف ليس على الوجوب، لأنَّه أمرَهم بالائتلاف على ما دلَّ عليه القرآن وحذَّرهم الفرقة.
          فإذا حدثت شبهة توجب المنازعة فيه أمرَهم بالقيام عن الاختلاف ولم يأمرْهم بترك قراءة القرآن إذا اختلفوا في تأويلِه لإجماع الأمَّة على قراءة القرآن(13) لمَن فهمَه ولمَن لم يفهمْه، فدلَّ أنَّ قولَه: (قُوْمُوا عَنْهُ(14)) على وجه النَّدب لا على وجه التَّحريم للقراءة عند الاختلاف.
          وكذلك رآى عمر ☺ في ترك كتاب رسول الله صلعم لهم حين غلبَه الوجع مِن أجل تقدُّم العلم عنده وعند جماعة المؤمنين أنَّ الدِّين قد أكملَه الله ╡، وأنَّ الأمَّة قد اكتفت بذلك، فلا يجوز أن يُتوهَّم أنَّ هناك شيئًا بقي على النَّبيِّ صلعم تبليغُه فلم يبلِّغْه لقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}[المائدة:67]، ولقولِه(15) تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ}[الذاريات:54]، وقد أنبأنا الله تعالى أنَّه أكمل(16) الدين فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3].
          وإذا ثبت هذا بأنَّ قولَه صلعم: (هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) محمول على ما أشار به عمر ☺ بأنَّه قول مَن قد غلبَه(17) الوجع وشغل بنفسِه، واكتفى بما أخبر الله تعالى به(18) مِن إكمال الدين، وبان بهذا مقدار علم عمر ☺ وتبريزُه على ابن عبَّاس رضي الله عنهم اجمعين(19) فكلُّ أمر لله ╡ وللرَّسول صلعم لم يكن واجبًا على العباد قد جاء معه مِن بيان النَّبيِّ صلعم بتصريح أو بدليل ما فهم به أنَّه على غير اللُّزوم.
          وقد فهم الصَّحابة ذلك مِن فحوى خطابِه ╕، وكلُّ أمر عري مِن(20) دليل يخرجه عن الوجوب وجب حملُه على الوجوب، / إذ لو كان مراد الله تعالى به غير الوجوب لبيَّنَه النَّبيُّ صلعم لأمَّتِه، فوجب أن يكون ما عري مِن بيانِه صلعم أنَّه على غير الوجوب غير مفتقر إلى طلب دليل أو قرينة أنَّ المراد(21) به الوجوب، لقيام لفظ الأمر بنفسِه، وكذلك ما عري مِن نهيِه ╕ مِن دليل يخرجُه عن التَّحريم وجب حملُه على التَّحريم كحكم الأمر سواء، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
          ووقع في بعض الأمَّهات في هذا الباب: باب النهي عن التحريم وهو غلط مِن النَّاسخ والصَّواب فيه: باب النهي على التَّحريم(22) يعني أنَّ النَّهي محمول(23) على التَّحريم إلَّا ما علمت إباحتُه على حديث أم عطيَّة.


[1] قوله: ((باب كراهية الاختلاف)) ليس في (ص). رقمنا الباب هنا فقط حسب تقدمه في البخاري لا كما في ابن بطال فليتنبه.
[2] في (ص): ((قالَ)).
[3] زاد في (ص): ((بن الخطاب)).
[4] في (ص): ((قالَ)).
[5] زاد في المطبوع: ((على)).
[6] في (ص): ((الدّليل)).
[7] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((الأمر)) زيادة من (ص).
[9] في (ص):((الأمر)).
[10] في (ص): ((على)).
[11] قوله: ((إذ)) ليس في (ص).
[12] زاد في (ص): ((أيضاً أن أمره لهم بالصلاة قبل المغرب وأمره لهم)).
[13] قوله: ((إذا اختلفوا في تأويله لإجماع الأمة على قراءة القرآن)) ليس في (ص).
[14] كذا في (ز) و(ص) والمطبوع: ((عنه)) والصواب: ((عني)).
[15] في (ص):((بقوله)).
[16] زاد في المطبوع: ((به)).
[17] في (ص): ((من شغله)).
[18] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[19] قوله: ((رضي الله عنهم اجمعين)) ليس في المطبوع.
[20] في (ص):((عن)).
[21] في (ص): ((إن أريد)).
[22] قوله: ((وهو غلط من الناسخ والصواب فيه باب النهي على التحريم)) ليس في (ص).
[23] قوله: ((محمول)) ليس في (ص).