شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ

          ░21▒ بابُ أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ.
          فيه: عَمْرُو بنُ الْعَاصِ: (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ(1) فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ). [خ¦7352]
          قال ابن المنذر: وإنَّما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالمًا بالاجتهاد والسُّنن، فأمَّا(2) مَن لم يعلم ذلك فلا يدخل في معنى الحديث، يدلُّ على ذلك ما رواه الأعمش عن سعد(3) بن عُبيدة عن ابن بُريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلعم: ((القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الجَنَّةِ، فَقَاضٍ قَضَى بِغَيْرِ الحَقِّ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَذَلِكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَذَلِكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ، فَذَلِكَ فِي الجَنَّةِ)).
          قال ابن المنذر: إنَّما يؤجر على اجتهادِه في طلب الصَّواب لا على الخطأ، وممَّا يؤيِّد هذا قولُه تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}[الأنبياء:78]الآية. قال الحسن: أثنى على سليمان ولم يذمَّ داوود. وذكر أبو التَّمَّام المالكي أنَّ مذهب مالك أنَّ الحقَّ في واحد مِن أقاويل المجتهدين، وليس ذلك في جميع أقاويل المتخلِّفين وبه قال أكثر الفقهاء.
          قال: وحكى ابن القاسم أنَّه سأل مالكًا عن اختلاف الصَّحابة، فقال: مخطئ ومصيب وليس الحقُّ في جميع أقاويلِهم. وقال(4) أبو بكر ابن الطَّيِّب: اختلفت الرِّوايات عن أئمَّة الفتوى في هذا الباب كمالك وأبي حنيفة والشَّافعي: فأما مالك، فالمروي عنه منعُه المهديَّ مِن حملِه النَّاس على العمل والفتيا بما في الموطَّأ، وقال له: دع النَّاس يجتهدون(5)، وظاهر هذا إيجابُه على كلِّ مجتهد القولَ بما يؤدِّيه الاجتهاد إليه، ولو رأى أنَّ الحقَّ في قولِه فقط أو قطع عليه لكان الواجب عليه المشورة على السُّلطان بالعمل به(6)، ويبعد أن يعتقد مالك أنَّ كلَّ(7) مجتهد مأمور بالحكم والفتيا باجتهادِه وإن كان مخطئًا في ذلك، وذكر عن أبي حنيفة والشَّافعي القولين جميعًا.
          واحتجَّ(8) مَن قال: إنَّ الحقَّ في واحد مِن أقاويل المجتهدين بقولِه صلعم: ((إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ)) قالوا: وهذا نصٌّ على أنَّ في المجتهدين وفي الحاكمين مخطئًا ومصيبًا. قالوا: والقول بأنَّ كلَّ مجتهد مصيب يؤدِّي إلى كون الشَّيء حلالًا حرامًا(9) وواجبًا ندبًا ويلزم الحاكم اعتقاد كونِه حلالًا إذا رأى ذلك بعض أهل الاجتهاد، وحرامًا إذا رأى ذلك غيرُه، وأن تكون الزَّوجة محلَّلة محرَّمة، والمال ملك الإنسان وغير ملك له إذا اختلف في ذلك أهل الاجتهاد.
          واحتجَّ كلُّ(10) مَن قال: كلُّ مجتهد مصيب، فقالوا: اتَّفق الكلُّ مِن الفقهاء على أنَّ فرض كلِّ عالم الحكم والفتيا بما أدَّاه الاجتهاد إليه، وما هو الحقُّ عندَه وفي غالب ظنِّه، وأنَّه حرام عليه أن يفتي ويحكم بقول مخالفِه، ولو كان في الأقاويل المختلف فيها ما هو خطأ وخلاف دين الله تعالى لم يجز أن تجمع الأمة على أنَّ فرض القائل به، لأنَّ إجماعَها على ذلك إجماع على خطأ، وقد نهى الله تعالى عنه وشرع خلافَه.
          ولو جاز كون(11) أحدِهما مخطئًا لأدَّى ذلك إلى أنَّ الله تعالى أمر أحدَهما بإصابة عين الباطل، وفي هذا القولُ بأنَّ الله تعالى أمر بالباطل، وإذا فسد هذا مع كونِه مأمورًا بالاجتهاد وجب كونُه بفتواه(12) ممتثلًا أمر ربِّه وطائعًا له ومصيبًا عند الله تعالى، فثبت أنَّ الحق مع كلِّ واحد منهما بدليل قولِه تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء}[الأعراف:28]، ومع قيام الدَّليل على(13) أنَّ طاعة الباري تعالى إنَّما كانت طاعة لأمرِه بها كما أنَّ المعصية كانت معصية لنهيه عنها.
          وقد أجاب الشَّافعي عن هذا الحديث في ((الرِّسالة)) بنحو هذا فقال: لو كان في الاجتهاد خطأ وصواب / في الحقيقة لم يجز أن يثاب على أحدِهما أكثر مِن الآخر لأنَّ الثواب لا يجوز فيما لا يسوغ ولا في الخطأ الموضوع إثمُه عنَّا.
          وقال ابن الطَّيِّب: هذا الخبر(14) يدل على أنَّ كلَّ مجتهد مصيب أولى وأقرب لأنَّ المخطئ لحكم الله تعالى والحاكم بغيرِه مع الأمر له به لا يجوز أن يكون مأجورًا على الحكم بالخطأ بل أقصى حالاتِه أن يكون إثمُه موضوعًا عنه(15)، فأمَّا أن يكون بمخالفة حكم الله تعالى مأجورًا فإنَّه باطل باتِّفاق، والنَّبيُّ صلعم قد جعلَه مأجورًا، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا ليس بخطأ في شيء(16) وجب عليه ولزمَه الحكم به.
          ويحتمل أن يكون معناه إذا اجتهد في البحث والطَّلب للنَّصِّ فأصابَه وحكم بموجبِه فله أجران: أحدُهما على البحث والطَّلب، والآخر على الحكم بموجبِه، وأراد بقولِه: ((إِنْ حَكَمَ فَأَخْطَأَ)) أي: أخطأ الخبر، بأن لم يبلغْه مع الاجتهاد في طلبِه، ثم حكم باجتهادِه المخالف لحكم النَّص كان مخطئًا للنَّصِّ ومصيبُه لا محالة في الحكم، لأنَّ الحكم بالاجتهاد عند ذلك فهو(17) فرضه. ولهذا كان يقول عُمر عندما كان يبلغُه الخبر: لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولم يقل له أحد مِن الصَّحابة: لو قضيت فيه برأيك لو لم(18) يبلغك الخبر لكنت بذلك عاصيًا، ولم أردت أن تقضي بالرَّأي وهذا الخبر كان موجودًا، فدلَّ إمساك الكلِّ عن ذلك أنَّ فرض الحاكم والمجتهد الحكم والفتيا برأيِه وإن خالف موجب الخبر، فإذا بلغَه تغيَّر عند ذلك فرضُه ولزمَه الحكم بموجبِه.
          ولا نقول: إنَّ كلَّ مجتهد مصيب إلَّا في الفروع ومسائل الاجتهاد الَّتي يجوز للعاميِّ فيها التَّقليد، وأمَّا القول بوجوب الصَّلوات الخمس والصِّيام والحجِّ وكلِّ فرض يثبت العمل به بالتَّواتر والاتِّفاق فأصل مِن أصول الدِّين(19) يحرم خلافُه كالتَّوحيد والنُّبوَّة وما يتَّصل بها.


[1] في (ص): ((فَأصابَ)).
[2] في (ص): ((وأما)).
[3] في (ز) و(ص) والمطبوع تصحيفًا: ((سعيد)).
[4] في (ص): ((قال)).
[5] في (ص): ((يجتهدوا)).
[6] في (ص): ((والعمل به)).
[7] في (ز): ((كان))، وفي (ص): ((كان مجتهداً مأموراً)).
[8] في (ص): ((فاحتج)).
[9] في (ص): ((وحراماً)).
[10] قوله: ((كل)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((جاز أن يكون)).
[12] في (ص): ((بفتياه)).
[13] قوله: ((على)) ليس في (ص).
[14] زاد في (ز) وهمًا: ((بأن)) والمثبت من (ص).
[15] قوله: ((عنه)) ليس في (ص).
[16] زاد في (ص): ((من الأحكام)).
[17] كذا في (ز) و(ص)، وفي المطبوع: ((هو)).
[18] في (ص): ((ولم)).
[19] زاد في (ص): ((الذي)).