شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس

          ░7▒ بابُ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأي وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ
          وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]
          فيه: عَبْدُاللهِ بنُ عَمْرٍو، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ اللهَ لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، فيُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ). [خ¦7307]
          وفيه: أَبُو وَائِل: (شَهِدْتُ صِفِّينَ، فَسَمِعْتُ سَهْلَ بنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ على دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صلعم لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عن(1) عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إلى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأمْرِ، وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: شَهِدْتُ صِفِّينَ، وَبِئْسَت الصِفُّونَ). [خ¦7308]
          قال الطَّبري: روى مبارك بن فَضَالة عن عُبيد الله بن عُمَر عن نافع عن ابن عُمر عن عمر قال: يا أيُّها النَّاس اتَّهموا الرَّأي على الدِّين. كقول سهل سواء.
          قال المُهَلَّب وغيرُه: إذا كان الرَّأي والقياس على أصل مِن كتاب الله تعالى وسنَّة رسولِه وإجماع(2) الأمَّة فهو محمود، وهو الاجتهاد والاستنباط الَّذي أباحَه الله للعلماء، وأمَّا الرَّأي المذموم والقياس المتكلَّف المنهيُّ عنه فهو ما لم يكن على هذه الأصول، لأنَّ ذلك ظنٌّ ونزع مِن الشيطان، والدَّليل على صحَّة هذا قولُه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]. قال ابن عباس: لا تقل ما ليس لك به علم. وقال قَتادة: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم. وأصل القفو العَضْه(3) والبَهْت، فنهى الله تعالى عبادَه عن قول ما لا علم لهم به، فإنَّه سائل السَّمع والبصر والفؤاد عمَّا قال صاحبُها فتشهد عليه جوارحُه بالحق، ومثل هذا قولُه صلعم: ((إِنَّ اللهَ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ)) ألا ترى أنَّه وصفَهم بالجهل، فلذلك جعلَهم ضالِّين وهم(4) خلاف الَّذين قال فيهم: {لَعَلِمَهُ الَّذين يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83]، وأمر بالرُّجوع إلى قولِهم.
          قال الطَّبري: فإن قيل: فإنَّ قول سهل بن حُنيف وعمر بن الخطاب: (اتَّهِمُوا الرَّأْيَ) يردُّ قول مَن استعمل الرَّأي في الدِّين، وأنَّه لا يجوز شيء مِن الرَّأي والقياس لأنَّهم أخطئوا يوم أبي جندل في مخالفتِهم رسول الله صلعم في صلحِه المشركين، وردِّه لأبي جندل إلى أبيه(5) وهو يستغيث، وكان قد عُذِّبَ في الله، وهم يظنُّون أنَّهم محسنون في مخالفة رسول الله صلعم.
          قيل: وجه قولِهما: (اتَّهِمُوا الرَّأْيَ) بمعنى الرَّأي(6) الَّذي هو خلاف لرأي رسول الله صلعم وأمرِه على الدِّين، الَّذي هو نظير آرائنا الَّتي كنَّا خالفنا بها رسول الله صلعم يوم أبي جندل، فإنَّ ذلك خطأ، فأمَّا الاجتهاد والاستنباط مِن كتاب الله تعالى وسنَّة رسولِه وإجماع الأمَّة فذلك هو الحقُّ الواجب والفرض اللَّازم لأهل العلم، وبنحو هذا جاءت الأخبار عن النَّبيِّ صلعم، وعن جماعة الصَّحابة والتَّابعين، روى ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلعم لمَّا انصرف مِن الأحزاب قال: ((لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَبْطَأَ أُنَاسٌ(7) فَتَخَوَّفُوا فَوْتَ الصَّلَاةِ فَصَلُّوا، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُصَلِّي إِلَّا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم، وَإِنْ فَاتَنَا الوَقْتُ(8)، فَمَا عَنَّفَ رَسُولُ الله صلعم أَحَدَ الفَرِيْقَيْنِ)) وهذا الخبر نظير خبر سهل بن حُنيف، ومن حرَّضَ(9) يوم أبي جندل على القتال اجتهادًا منهم ورسول الله صلعم يرى ترك قتالِهم في أنَّه لم يؤثِّمهم كما لم يؤثِّم أحد الفريقين؛ لا الَّذين صلُّوا قبل وصولِهم إلى بني قريظة لأنَّ معنى ذلك كان عندهم ما لم يخشوا(10) فوات(11) وقتِها، وكذلك لم يؤثِّم أيضًا الَّذين لم يصلُّوا حتى فاتهم وقتُها إلى أن صاروا إلى بني قريظة لأنَّ معنى أمرِه صلعم(12) كان عندهم لا تُصلُّوها(13) إلَّا في بني قريظة وإن فاتكم وقتُها، فعَذَرَ كلَّ واحد منهم لهذه العلَّة.
          وروى سفيان عن / الشَّيباني عن الشَّعْبي عن شُرَيح أنه كتب إلى عُمَر بن الخطاب يسألُه، فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله ففي سنَّة رسول الله صلعم، فإن لم يكن فبما قضى الصَّالحون، فإن لم يكن فإن شئت تقدَّم وإن شئت تأخَّر، ولا أرى التَّأخُّر إلَّا خيرًا لك، والسَّلام. وروى هُشيم حدَّثنا سيَّار عن الشَّعْبي قال: لما بعث عمر شُريحًا على قضاء الكوفة قال: انظر ما تبيَّن لك في كتاب الله ولا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتبع فيه سنَّة رسول الله صلعم وما لم يتبيَّن لك في السُّنَّة فاجتهد رأيك.
          فقد أنبأت هذه الأخبار عن عمر أنَّ معنى قولِه: (اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ) أنَّه الرَّأي الَّذي وصفنا، لأنَّه محال أن يقول: اتَّهموه واستعملوه، لأنَّ النَّهي عن الشَّيء والأمر به في حالة واحدة ينقض بعضُه بعضًا، ولا يجوز أن يُظنَّ ذلك بعُمرَ ونظرائِه.
          ونزيد(14) ذلك بيانًا: روى(15) مجاهد عن الشَّعْبي عن عَمرو بن حُريث قال: قال عُمَر بن الخطَّاب: ((إيَّاكم وأصحاب الرَّأي فإنَّهم أعداء السُّنن، أعيتْهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرَّأي، فضلُّوا وأضلُّوا)) فقد بيَّن هذا القول مِن عمر أنَّه أمر باتِّهام الرَّأي فيما خالف أحكام رسول الله صلعم وسنَّتَه، وذلك أنَّه قال: إِنَّهم أعداء السُّنن أعيتْهم أن يحفظوها.
          فأخبر(16) أنَّه لمَّا أعياهم حفظ سنن رسول الله صلعم قالوا بآرائِهم وخالفوها، جهلًا منهم بأحكام رسول الله صلعم وسننِه وذلك هو الجرأة على الله ╡ بما لم يأذن به في دينِه، والتَّقدُّم بين يدي رسول الله صلعم، فأمَّا اجتهاد الرَّأي في استنباط الحقِّ مِن كتاب الله وسنَّة رسولِه صلعم فذلك الَّذي أوجب الله تعالى على العلماء فرضًا، وعمل به المسلمون بمحضر مِن رسول الله صلعم، فلم يعنِّفهم ولا نهاهم عنه، إذ كان هو الحقُّ عندَه والدِّين، اقتفى(17) أثرَهم فيه الخلف مِن بعدهم، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس، وروى أبو معاوية عن الأعمش عن عُمارة عن عبد الرَّحمن بن يزيد، قال ابن مسعود: ومَن عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءَه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيُّه صلعم، فإن جاءه أمر ليس في سنَّة نبيِّه فليقض بما قضى به الصَّالحون، فإن جاءَه ما ليس في ذلك فليجتهد رأيَه، ولا يقول(18): إنِّي أرى وإنِّي أخاف؛ فإنَّ الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
          وقد تقدَّم حديث سهل بن حُنيف(19) في آخر كتاب الجهاد ومرَّ فيه مِن معناه ما لم أذكرْه هنا خوف التَّكرار.
          وقول أبي وائل: (وَبِئْسَتِ الصِّفُّونُ) سمَّى المكان بالجمع المسلم كما سُمِّي الرَّجل يزيدين أو عُمرين فيجريه في حال التَّسمية به مجراه في حال الجمع، وما كان مِن الواحد عن بناء الجمع فإعرابُه كإعراب الجمع كقولك دخلت فلسطين وهذه فلسطون وأتيت قنسرين وهذه قنسرون، وأنشد المبرد:
وَشَاهِدُنَا الجُلُّ وَاليَاسَمُونُ                     والمُسُمِعَاتُ بِقُصَّابِهَا(20)
          ومِن هذا قول الله ╡: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}[المطففين:18-19]، وفيه(21) مذهب آخر للعرب وهو أن يعربوا النُّون ويجعلوها بالياء في كلِّ حال كقولك: هذه السَّلْحِينُ، ومررت بالسَّلْحِين، ورأيت السَّلْحِين.


[1] في المطبوع: ((على)).
[2] في المطبوع: ((أو إجماع)).
[3] في (ز): ((الغضه)) والصواب المثبت.
[4] في (ص): ((هو)).
[5] في المطبوع: ((لأبيه)).
[6] قوله: ((بمعنى الرأي)) ليس في المطبوع.
[7] في (ص): ((ناس)).
[8] في (ص): ((العصر)).
[9] في (ص) مهملة، وفي المطبوع: ((حرص)).
[10] في (ص): ((يخش)).
[11] في المطبوع: ((فوت)).
[12] زاد في (ص): ((بذلك)).
[13] الكلمة غير واضحة في (ص)، وفي المطبوع: ((يصلوها)).
[14] في المطبوع: ((ويزيد)).
[15] في (ص): ((وروى)).
[16] في (ص): ((وأخبر)).
[17] في المطبوع: ((واقتفى)).
[18] في المطبوع: ((ولا يقل)).
[19] قوله: ((بن حنيف)) ليس في المطبوع.
[20] في المطبوع: وشاهدنا الحل والياسمون والمستعاب بقضائها. وهو تصحيف.
[21] في المطبوع: ((فيه)).