شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما جاء في اجتهاد القضاة بما أنزل الله تعالى

          ░13▒ بابُ اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة:45]وَمَدَحَ النَّبيُّ صلعم صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لَا يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَل نفسه، وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ.
          فيه: عَبْدُالله، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا). [خ¦7316]
          وفيه: الْمُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ، قَالَ: (سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاصِ الْمَرْأَةِ، وهي الَّتي يُضْرَبُ بَطْنُهَا، فَتُلْقِي جَنِينًا، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبيِّ صلعم فِيهِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ: لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَأْتِي بِالْمَخْرَجِ مِمَّا قُلْتَ، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ). [خ¦7317] [خ¦7318] / الاجتهاد فرض واجب على العلماء عند نزول الحادثة، والواجب على الحاكم أو العالم إذا كان مِن أهل الاجتهاد أن يلتمس حكم الحادثة في الكتاب أو السُّنَّة، ألا ترى أنَّ عمر بن الخطَّاب لمَّا احتاج إلى أن يقضي في إملاص المرأة سأل الصَّحابة مَن عنده علم مِن النَّبيِّ صلعم في ذلك؟ فأخبرَه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مَسْلَمة بحكم النَّبيِّ ╕ في ذلك، فحكم به ولم يسغ له الحكم في ذلك باجتهادِه إلا بعد طلب النُّصوص مِن السُّنَّة، فإذا عدم السُّنَّة(1) رجع إلى الإجماع، فإن لم يجدْه(2) نظر هل يصحُّ حمل حكم الحادثة على بعض الأحكام المتقرِّرة بعلَّة(3) تجمع بينَهما، فإن وجد ذلك لزمَه القياس عليها إذا لم تعارضها علَّة أخرى.
          ولا فرق بين أن تجد(4) العلَّة ممَّا هو مِن باب الحادثة أو غيرِها(5) لأنَّ الأصول كلَّها يجب القياس عليها إذا صحَّت العلَّة، فإن لم يجد العلَّة استدلَّ بشواهد الأصول وغلبة الأشباه إذا كان ممَّن يرى ذلك، فإن لم يتوجَّه له وجه مِن بعض هذه الطُّرق وجب أن يُقِرَّ الأمر في النَّازلة على حكم العقل، ويعلم أنَّه لا حكم لله فيها شرعيًّا زائدًا على العقل. هذا قول ابن الطَّيِّب.
          قال غيرُه: وهذا هو الاستنباط الَّذي أمر الله عبادَه بالرُّجوع إلى العلماء فيه بقولِه تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذين يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء:83]، والاستنباط هو الاستخراج، ولا يكون إلَّا في القياس لأنَّ النَّص ظاهر جليٌّ وليس يجوز أن يقال: إنَّ(6) عدم النَّصُّ على الحادثة مِن كتاب الله تعالى أو سنَّة رسولِه صلعم يوجب أن لا(7) حكم لله تعالى فيها لقولِه تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}[الأنعام:38]، إذ لو خلا بعض الحوادث أن تكون لا حكم لله تعالى فيها لبطل(8) إخبارُه إيَّانا بقولِه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام:38]، وفي علمنا أنَّ النُّصوص لم تحط بجميع الحوادث دِلالة أنَّ الله تعالى قد أَبَان لنا حكمَها بغير جهة النَّصِّ، وهو القياس على علَّة النَّصِّ، ولو لم يتعبَّدْنا الله تعالى إلَّا بما نصَّ عليه فقط لمنع عبادَه الاستنباطَ الَّذي أباحَه لهم والاعتبارَ في كتابِه الَّذي دعاهم إليه، ولو نصَّ على كلِّ ما يحدث إلى قيام السَّاعة لطال الخطاب وبعُد إدراك فهمِه على المكلَّفين، بل كانت بنية الخلق تعجز عن حفظِه، فالحكمة فيما فعل ╡(9) مِن وجوب الاجتهاد والاستنباط والحكم للأشياء بأشباهِها ونظائرها(10) في المعنى، وهذا هو القياس الَّذي نفاه أهل الجهالة القائلون بالظَّاهر المنكرون للمعاني والعلل ويلزمهم التَّناقض في نفيهم القياس، لأنَّ أصلَهم الَّذي بنوا عليه مذهبهم أنَّه لا يجوز إثبات فرض في دين الله إلا بإجماع مِن الأمَّة، والاجتهاد والقياس فرض على العلماء عند عدم النُّصوص فلزمهم(11) أن يأتوا بإجماع مِن الأمة على إنكار القياس، وحينئذ يصحُّ قولُهم، ولا سبيل لهم(12) إلى ذلك.


[1] في (ص): ((النص)).
[2] قوله: ((فإن لم يجده)) ليس في (ص).
[3] في المطبوع: ((لعلةٍ)).
[4] كذا في (ز): ((تجد)) وفي (ص): ((يجعل)).
[5] في (ص): ((غيره)).
[6] قوله: ((إن)) زيادة من (ص).
[7] قوله: ((أن لا)) ليس في المطبوع.
[8] في المطبوع: ((بطل)).
[9] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[10] في (ز): ((فنظائرها)) والمثبت من (ص).
[11] في المطبوع: ((فيلزمهم)).
[12] قوله: ((لهم)) ليس في (ص).