شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الأحكام التي تعرف بالدلائل

          ░24▒ بابُ الأحْكَامِ الَّتي تُعْرَفُ بِالدَّلائِلِ وَكَيْفَ(1) مَعْنَى الدِّلَالَةِ وَتَفْسِيرُهَا؟ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبيُّ صلعم أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ، فَدَلَّهُمْ على قَوْلِهِ تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة:7]، وَسُئِلَ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ: (لَا آكُلُهُ، وَلَا أُحَرِّمُهُ)، وَأُكِلَ على مَائِدَةِ / النَّبيِّ صلعم الضَّبُّ، فَاسْتَدَلَّ ابنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
          فيه(2): أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ(3): ((الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ...))، الحديث وَسُئِلَ النَّبيُّ صلعم عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}. [خ¦7356]
          وفيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبيَّ صلعم عَنِ الْحَيْضِ، كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ؟ قَالَ: تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ النَّبيُّ(4) صلعم: تَوَضَّئِي بِهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَرَفْتُ الَّذي يُرِيدُ النَّبيُّ صلعم فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ فَعَلَّمْتُهَا). [خ¦7357]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ أَهْدَتْ لِلنَّبيِّ صلعم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا، فَدَعَا بِهِنَّ النَّبيُّ صلعم فَأُكِلْنَ على مَائِدَتِهِ، فَتَرَكَهُنَّ النَّبيُّ صلعم كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أُكِل عَلَى مَائِدَتِهِ، وَلَا أَمَرَ بِأَكْلِه). [خ¦7358]
          وفيه: جَابِرٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ، وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ، قَالَ ابنُ وَهْبٍ: يَعْنِي طَبَقًا، فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ(5): قَرَّبُوهَا إلى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي). وعَنِ ابْنِ وَهْبٍ: بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ. [خ¦7359]
          وفيه: جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ: (أَنَّ امْرَأَةً أَتَت النَّبيَّ صلعم وَكَلَّمَتْهُ بِشَيْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ). زَادَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ. [خ¦7360]
          قال المُهَلَّب وغيرُه: هذا كلُّه بيِّن في جواز القياس والاستدلال وموضع الاستدلال على أنَّ في الحُمُر أجرًا قولُه تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة:7]، فحمل صلعم الآية على عمومِها استدلالًا بها.
          وأمَّا استدلال ابن عبَّاس أنَّ الضَّبَّ حلال بأكله على مائدتِه صلعم بحضرتِه ولم ينكرْه ولا منع منه بقولِه: (وَلَا أُحَرِّمُهُ) فيحتمل أن يكون استدلالًا لا نصًّا لاحتمال قولِه صلعم: (وَلَا أُحَرِّمُهُ) النَّدب إلى ترك أكلِه، فلمَّا أكل بحضرتِه استدلَّ ابن عبَّاس بذلك على أنَّه لم يحرِّمه ولا ندب إلى تركِه، ويحتمل أن يكون نصًّا لأنَّ قولَه: (لَا أُحَرِّمُهُ) لا(6) يتضمَّن النَّدب إلى ترك أكلِه فيكون نصًّا في تحليلِه.
          وأمَّا حديث الحائض فهو استدلال صحيح، لأنَّ السَّائلة لم تفهم غرض النَّبيِّ صلعم حين أعرض عن ذكر موضع الأذى والدَّم حياء منه ولم تدر أن التَّتبُّع لأثر الدَّم بالخرقة سُمِّي توضُّؤًا ففهمت ذلك عائشة مِن إعراضِه فهو استدلال صحيح.
          وأمَّا حديث جابر في الثُّوم والبصل فهو نص منه صلعم على جواز أكلِهما(7) بقولِه: (كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي).
          وأمَّا حديث المرأة فهو استدلال صحيح استدلَّ النَّبيُّ صلعم بظاهر قولِها: (فَإِنْ لَمْ أَجِدْكَ) أنَّها أرادت الموت، فأمرَها بإتيان أبي بكر. فإن قيل: فليس في ظاهر قولِها دلالة على الموت؟ قيل له: قد يمكن أنَّه اقترن بسؤالِها ((إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟)) حالة مِن الأحوال، وإن لم يكن نقلَها دلَّتْه ╕ على مرادِها، فوكلَها إلى أبي بكر، وفي هذا دليل على استخلاف أبي بكر ☺، وقد أمر الله تعالى عبادَه بالاستدلال والاستنباط مِن نصوص الكتاب والسُّنَّة وفرض ذلك على العلماء القائمين به.


[1] في (ص): ((كيف)).
[2] في (ص): ((وفيه)).
[3] في (ص): ((قالَ النَّبيُّ)).
[4] قوله: ((النَّبيُّ)) ليس في المطبوع.
[5] زاد في المطبوع: ((قَرِّبوها)).
[6] في (ص): ((ولا أحرمه فلا)).
[7] في المطبوع: ((أكله)).