شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من رأى ترك النكير من النبي حجة لا من غير الرسول

          ░23▒ بابُ مَنْ رَأى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنَ النَّبيِّ صلعم حُجَّةً لَا مِنْ غَيْرِه.
          فيه: ابنُ الْمُنْكَدِرِ: (رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّ ابنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ على ذَلِكَ عِنْدَ النَّبيِّ صلعم، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبي صلعم). [خ¦7355]
          قال المؤلِّف(1): ترك النَّكير مِن النَّبيِّ صلعم حجَّة وسنَّة يلزم أمَّتَه العمل بها، لا خلاف بين العلماء في ذلك، لأنَّ النَّبيَّ صلعم لا يجوز أن يرى أحدًا مِن أمَّتِه يقول قولًا أو يفعل فعلا محظورًا فيقرَّه(2) عليه لأنَّ الله تعالى فرض عليه النَّهي عن المنكر، وإذا كان ذلك(3) علم أنَّه لا يرى أحدًا عمل شيئًا فيقرُّه عليه إلا وهو مباح له، وثبت أنَّ إقرار النَّبيِّ صلعم عُمر على حلفه أنَّ ابن صيَّاد الدَّجَّال إثبات أنذضه الدَّجَّال، وكذلك فهم جابر بن عبد الله مِن يمين عُمر.
          فإن اعترض بما روي مِن قول عمر للنَّبيِّ صلعم: دعني أضرب عنقه. فقال: ((إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ)) فهذا يدلُّ على شكِّه ╕ فيه، وترك القطع عليه أنَّه الدَّجَّال.
          قيل: عن هذا جوابان: أحدُهما أنَّه يمكن أن يكون هذا الشَّكُّ منه صلعم كان متقدِّمًا ليمين عُمر أنَّه الدَّجَّال، ثم أعلمَه الله تعالى أنَّه الدَّجَّال فلذلك ترك إنكار يمينِه عليه لتيقُّنِه بصحَّة ما حلف عليه. والوجه(4) الآخر: أنَّ الكلام وإن خرج مخرج الشَّكِّ فقد يجوز أن يراد به التَّيقُّن والقطع كقولِه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}[الزمر:65]، وقد علم تعالى أنَّه لا يقع(5) منه الشِّرك، فإنَّما(6) خرج منه هذا ╕ على المتعارف عند العرب في تخاطبها. قال الشاعر:
أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلَاجِلٍ                     وَبَيْنَ النَّقَا آأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمٍ
          فأخرج كلامَه مخرج الشَّكِّ مع كونِه غير شاكٍّ في أنَّها ليست بأمِّ سالم، وكذلك خرج كلامُه ╕ مخرج الشَّكِّ لطفًا منه بعُمر في صرفِه عن عزمِه على قتلِه، وقد ذكر عبد الرزَّاق عن مَعْمر عن الزُّهري عن سالم عن ابن عُمر قال: لقيت ابن صيَّاد يومًا ومعه رجل مِن اليهود، فإذا عينُه قد طفت وهي خارجة مثل عين الجمل، فلمَّا رأيتُها قلت: أنشدك الله يا ابن صيَّاد، متى طفت عينك؟ قال: لا أدري والرَّحم. فقلت: كذبت، لا تدري وهي في رأسك؟ قال: فمسحَها ونخر ثلاثًا فزعم اليهوديُّ أنِّي ضربت بيدي على صدرِه وقلت له: أخسأ فلن تعدو قدرك، فذكرت ذلك لحفصة فقالت: اجتنب هذا الرجل، فإنَّا نتحدَّث أنَّ الدَّجَّال يخرج عند غضبة يغضبُها.
          فإن قيل: هذا كلُّه يدلُّ على الشَّكِّ في أمرِه.
          قيل: إن وقع الشَّكُّ في أنَّه الدَّجَّال الَّذي يقتلُه عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فلم يقع الشَّكُّ(7) في أنَّه أحد الدَّجَّالين الَّذين أنذر بهم النَّبيُّ صلعم مِن(8) قوله: ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ دَجَّالِينَ كَذَّابِينَ أَزْيَدُ مِنْ ثَلَاثِينَ)) فلذلك لم ينكر على عُمر يمينَه والله أعلم، لأنَّ الصَّحابة قد اختلفوا في مسائل: فمنهم مَن أنكر على مخالفة قولِه، ومنهم مَن سكت عن إنكار ما خالف اجتهادَه ومذهبَه، فلم يكن سكوت مَن سكت رضًا بقول مخالفِه، إذ قد يجوز أن يكون السَّاكت لم يبيَّن له وجه الصَّواب في المسألة وأخَّرَها إلى وقت آخر ينظر فيها، وقد يجوز أن يكون سكوتُه ليبيِّن خلافَها في وقت آخر إذا كان ذلك أصلح في المسألة.
          فإن اعتُرض أنَّ سكوت البكر حجَّة عليها. قيل: ليس هذا بمفسد لما تقدَّم لأنَّ مَن شرط كون سكوتها حجَّة عليها تقديم الإعلام لها بذلك، فسكوتُها بعد الإعلام أنَّه لازم لها رضًا منها وإقرار.


[1] قوله: ((قال المؤلِّف)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((يقره)).
[3] في (ص): ((فإذا كان كذلك)).
[4] في (ص): ((الوجه)).
[5] في (ز): ((يقطع)) والمثبت من (ص).
[6] في (ص): ((وإنما)).
[7] قوله: ((الشك)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((في)).