شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع

          ░5▒ بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ وَالْغُلُوِّ في الدِّينِ،
          لِقَوْلِهِ(1) تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ(2)} الآية[النساء:171]
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ فيُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي) الحديث، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ: (لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ(3) لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ). [خ¦7299]
          وفيه: عَلِيٌّ، أَنَّه خَطَبَ / وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ(4) صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابَُ اللهِ وَمَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ... وذكر الحديث. [خ¦7300]
          وفيه: عَائِشَة، صَنَعَ النَّبيُّ صلعم شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ صلعم فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ، أَصْنَعُهُ، فَوَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُهُمْ بِاللهِ، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً). [خ¦7301]
          وفيه: ابنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ☻، لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبيِّ صلعم وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ أَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالأَقْرَعِ بنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الآخَرُ بِغَيْرِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ ☺: إنَّما أَرَدْتَ خِلافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا عِنْدَ النَّبيِّ عليه صلعم فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبي} الآية[الحجرات:2]، فَكَانَ عُمَرُ إِذَا حَدَّثَ النَّبيَّ صلعم بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَا يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ. [خ¦7302]
          وفيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فليُصَلّ بِالنَّاسِ، إِلَى قَولِه: إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) الحديث. [خ¦7303]
          وفيه: حَدِيثُ مَالكِ بنِ أَوْسٍ، أَنَّ العَبَّاسَ وَعَليًّا جَاءَا إِلَى عُمَرَ يَطْلُبَانِ مِيْرَاثَهُمَا مِنَ النَّبيِّ صلعم وَتَنَازُعُهُمَا فِي ذَلِكَ مَعَ عُمرَ... الحديث بطوله. [خ¦7305]
          قال المُهَلَّب في قولِه تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ}[النساء:171]: الغلوُّ مجاوزة الحد، فهذا يدلُّ أنَّ البحث عن أسباب الربوبيَّة مِن نزغات الشَّيطان، وممَّا يؤدِّي إلى الخروج عن الحق لأنَّ هؤلاء غلوا في الفكرة حتى آل بهم الأمر أن جعلوا الآلهة ثلاثة، وأمَّا الَّذين غلوا في الصِّيام فهو اتِّباعُهم للوصال بعد أن نهاهم النَّبيُّ صلعم فعاقبَهم بأن زادهم ممَّا تعمَّقوا به.
          وقول علي: (مَا عِنْدَنَا إِلَّا كِتَابَُ اللهِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيْفَةِ) فإنَّه أراد به تبكيت مَن تنطَّع وجاء بغير ما في كتاب الله تعالى وغير ما في سنَّة رسولِه صلعم فهو مذموم(5).
          وحديث القبلة للصَّائم الَّذي تنزَّه قوم عنها وترخَّص فيها النَّبيُّ صلعم(6) فذمَّهم بتعمُّقهم ومخالفتِه صلعم.
          وقصة وفد(7) بني تميم لمَّا آل التَّنازع بين أبي بكر وعمر إلى المخاشنة في التَّفاضل بين الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ورمى بعضُهم بعضًا بالمناواة والقصد إلى المخالفة والفرقة، كذلك ينبغي أن تُذَمَّ كلُّ حالة تُخرِج صاحبَها إلى افتراق الكلمة واستشعار العداوة.
          وقولُه: (مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ) ذمَّ عائشة لتعمُّقها في المعاني الَّتي خشيتْها مِن مقام أبيها في مقام رسول الله صلعم ممَّا روي عنها أنَّها قصدتُه بذلك، وقد(8) ذكرتُها في كتاب الصَّلاة، وذمُّه(9) حفصة أيضًا، لأنَّها أدخلتْها في المعارضة للنَّبيِّ صلعم، وكذلك كراهية رسول الله صلعم لمسائل(10) اللِّعان وعيبُه لها هو نصٌّ في هذا الباب، لأنَّه خشي أن ينزل مِن القرآن ما يكون تضييقًا، فنزل فيه اللِّعان وهو وعيد عظيم وسبب إلى عذاب الآخرة لمَن أراد الله تعالى إنفاذَه عليه.
          وحديث العباس وعلي خشي أن يؤول ما ذمَّ مِن تنازعِهما إلى انقطاع الرَّحم الَّتي بينهما بالمخاصمة في هذا المال الموقوف، لا سيِّما بعد أن نصَّ عليهم عمر(11) ☺ حديث رسول الله صلعم، فلم ينتهيا عن طلب هذا الوقف لِيَلِيَاه كما كان يليه الخليفة مِن توزيعِه وقسمتِه(12) حيث يحب، وانفرادُهما بالحكم فيه(13) وقد تقدَّم الكلام في معناه في كتاب فرض الخمس مِن كتاب الجهاد والحمد لله كثيرًا(14).


[1] في (ص): ((بقوله)).
[2] قوله: ((إلا الحق)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((الهلال)) ليس في (ص).
[4] في في (ص): ((أنه خطب بسيف وفيه)).
[5] قوله: ((فهو مذموم)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((وحديث القبلة للصائم...صلعم)) ليس في (ص).
[7] قوله: ((وفد)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((وذم)).
[10] في (ص): ((مسائل)).
[11] في (ص): ((بعدما نص عليهم)).
[12] قوله: ((وقسمته)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[14] في (ص): ((وقد تقدم في كتاب الخمس)).