شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء}

          ░17▒ بابُ قَولِه ╡: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عِمْرَان:128].
          فيه: ابنُ عُمَرَ: (سَمِعَ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ في صَلاةِ الْفَجْرِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَالَ(1): اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ في الآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلانًا وَفُلانًا، فَأَنْزَلَ اللهُ ╡: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شيء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}[آل عِمْرَان:128]). [خ¦7346]
          قولُه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شيء}[آل عِمْرَان:128]، يعني ليس لك مِن أمر خَلْقي شيء، وإنَّما أمرُهم والقضاء فيهم بيدي دون غيري(2)، وأقضي الَّذي أشاء مِن التوبة على مَن كفر بي وعصاني، أو العذاب إمَّا في عاجل الدُّنيا بالقتل والنِّقَم وإمَّا في الآجل بما أعددت لأهل الكفر بي. ففي هذا مِن الفقه أنَّ الأمور المقدَّرة لا تغيُّر عما أُحكِمت عليه، لقولِه تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ}[ق:29]، وقولُه تعالى: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء} فإنَّما هو في النسخ أي ينسخ ممَّا أمر به ما يشاء، {وَيُثْبِتُ} أي ويبقي مِن أمرِه ما يشاء. زَعْمُ(3) ابنِ عبَّاسٍ وقَتادة وغيرُهما. وقيل: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء} ممَّا يكتبُه الحفظة على العباد ممَّا لم يكن خيرًا أو شرًّا كلَّ يوم اثنين وخميس، ويثبت ما سوى ذلك. عن(4) ابن عبَّاس أيضًا، وقِيلَ: {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ}[الرعد:39]أي مَن أتى(5) أجلُه مُحِيَ ومَن لم يمض أجلُه أُثبت، عن الحسن. {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، يعني أصل الكتاب وهو اللَّوح المحفوظ.
          والدعاء جائز مِن جميع الأمم، لكن ما ختم الله تعالى به مِن الأقدار على ضربين: منه ما قدَّر وقضى إذا(6) دُعِي وتُضُرِّع إليه صرف البلاء، وضرب آخر وهو الَّذي في هذا الحديث الَّذي ختم بإمضائِه، وقال لنبيِّه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شيء}[آل عِمْرَان:128]في الدُّعاء على هؤلاء، لأنَّ منهم مَن قد قضيت له بالتَّوبة، ومنهم مَن قد قضيت عليه بالعذاب(7) فلابدَّ منه(8) لكن لانفراد الله تعالى بالمشيئة وتعذُّر علم ذلك على العقول جاز الدُّعاء لله تعالى؛ إذ الدَّعوة مِن أوصاف العبوديَّة، فعلى العبد التزامُها، ومِن صفة العبوديَّة الضَّراعة والمسكنة، ومِن صفة الملك الرَّأفة والرَّحمة، ألا ترى قولَه صلعم: ((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، وَلْيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ)) إذ كان السَّائل إنَّما يسأل الله تعالى مِن حيث له أن يفعل لا مِن حيث له ترك الفعل، وهذا الباب وإن كان متعلِّقًا بباب القدر فلَه مدخل في كتاب الاعتصام لدعاء النَّبيِّ صلعم لهم إلى الإيمان الَّذي الاعتصام به يمنع عنهم القتل(9) ويحقن الدَّم.


[1] قوله: ((ورفع رأسه من الركوع قال)) ليس في (ص).
[2] زاد في (ص): ((فيهم)).
[3] في (ص): ((وعن)).
[4] في المطبوع: ((وعن)).
[5] في المطبوع: ((آتى)).
[6] في المطبوع: ((وإذا)).
[7] في (ص): ((بالعقاب)).
[8] قوله: ((فلا بدَّ منه)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((يمنعهم القتال)).