شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم

          ░4▒ بابُ الاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِ النَّبيِّ صلعم
          فيه: ابنُ عُمَرَ: (اتَّخَذَ النَّبيُّ صلعم خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَنَبَذَهُ، وَقَالَ: لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ). [خ¦7298]
          قال أبو التَّمَّام(1) المالكي وأبو بكر بن الطَّيِّب: ما كان مِن أفعال الرَّسول صلعم بيانًا لمجمل(2) كالصَّلاة والصِّيام والحجِّ، وما دعا إلى فعلِه كقولِه: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)) فلا خلاف بين العلماء أنَّها على الوجوب، واختلفوا فيما كان منها واقعًا موقع القرب لا على وجه البيان والامتثال لتمثيل أمر(3) لزمَه، فقال مالك وأكثر أهل العراق: إنَّها على الوجوب، إلَّا أن يمنع مِن ذلك دليل، وهو قول ابن سريج وابن خيران مِن أصحاب الشَّافعي، وقال بعض أصحاب الشَّافعي: إنها على النَّدب وإن المتأسِّى به فيها مندوب إليه إلَّا أن يقوم دليل على وجوبِها، وقال كثير مِن أهل الحجاز والعراق وأصحاب الشَّافعي: إنها على الوقف إلَّا أن يقوم دليل على كونِها ندبًا أو مباحة(4) أو محظورة. قال أبو بكر بن الطَّيِّب: وبهذا نقول. واحتجُّوا(5) لذلك بأنَّه لما كانت القربة الواقعة محتملة لكونها فرضًا ونفلًا لم يجز أن يكون الفعل منه دليلًا على أنَّنا متعبدون مثلَه(6)، ولا على كونِه واجبًا علينا دون كونِه نفلًا لأنَّ فعلَه مقصور عليه دون متعدٍّ إلى غيرِه، وأمرُه لنا ونهيُه متعدِّيان إلى الغير والغرض فيهما امتثالهما فافترقا.
          وحجَّة مَن قال: إنَّها على الوجوب أنَّ النَّبيَّ صلعم خلع خاتمَه فخلعوا خواتيمَهم، وأنَّه خلع نعليه في الصلاة فخلعوا نعالَهم، وأنَّه أمرَهم عام الحديبية بالتَّحلُّل فوقفوا، فشكا ذلك إلى أمِّ سلمة فقالت له: اخرج إليهم واذبح واحلق. ففعل ذلك فحلقوا وذبحوا(7) اتِّباعًا لفعلِه، فعُلِم أن الفعل آكد عندهم مِن القول، وقال لأمِّ سلمة حين سألتْها المرأة عن القبلة للصَّائم: ((أَلَا أَخْبَرْتِهَا أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ)) وقال للرَّجل مثل ذلك، فقال لَه(8): إنَّك لست مثلنا. فقال: ((إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَتْقَاكُم للهِ)).
          فدلَّ هذا على أنَّ الأسوة واقعة إلَّا ما منع منه الدَّليل، ويدلُّ على ذلك أنَّه لمَّا نهاهم عن الوصال قالوا: إنَّك تواصل. قال: ((إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى)) فلولا أنَّ لهم الاقتداء به لقال لهم: وما في مواصلتي ما يبيح لكم فعل ذلك، وأفعالي مخصوصة بي، فلم يقل لهم ذلك، ولكن بيَّن لهم المعنى في اختصاصِه بالمواصلة، وهو أنَّ الله يطعمُه ويسقيه، وأنهم بخلافِه في ذلك، وكذلك خصَّ الله تعالى الموهوبة أنَّها خالصة له(9) دون أمَّته، ولولا ذلك لكانت مباحًا لهم.


[1] في المطبوع: ((أبو تمام)).
[2] في (ص): ((لجملة)).
[3] في (ص): ((من)).
[4] في (ص): ((إباحة)).
[5] في (ص): ((واحتج)).
[6] في (ص): ((بمثله)).
[7] في (ص): ((فذبحوا وحلقوا)).
[8] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[9] زاد في (ص): ((من)).