شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه

          ░3▒ بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَتَكَلُّفِ مَا لَا يَعْنِي
          وَقولِ الله ╡: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101]
          فيه: سَعْدٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ(1) لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ). [خ¦7289]
          وفيه: زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم اتَّخَذَ حُجْرَةً في الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ، فَصَلَّى النَّبيُّ(2) صلعم فِيهَا لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ؛ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا زَالَ بِكُمِ الَّذي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ في بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلاةَ(3) الْمَكْتُوبَةَ). [خ¦7290]
          وفيه: أَبُو مُوسَى: (سُئِلَ النَّبيُّ صلعم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ غَضِبَ، وَقَالَ: سَلُونِي، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ(4): أَبُوكَ حُذَافَةُ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ، سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ، فَلَمَّا رَأى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ النَّبي صلعم مِنَ الْغَضَبِ، قَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إلى اللهِ). [خ¦7291]
          وذكر قصة حذافة مِن رواية أَنَس وفيه: (فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: النَّارُ، ثم قَامَ عَبْدُاللهِ بنُ حُذَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أبي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، فَبَرَكَ عُمَرُ على رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نبيًا، فَسَكَتَ النَّبيُّ صلعم عند ذَلِكَ(5)، ثُمَّ قَالَ: أَوْلَى والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ) الحديث. [خ¦7294]
          وَقَالَ أَنَس: (لَمَّا قَالَ النَّبيُّ صلعم: أَبُوكَ فُلانٌ، نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101]الآيَةَ).
          وفيه: الْمُغِيرَةُ: (أنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَنْهَى عن(6) قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ) الحديث. [خ¦7292]
          وفيه: أَنَسٌ(7)، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءلون حَتَّى يَقُولُوا(8): هَذَا اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟). [خ¦7296]
          وفيه: ابنُ مَسْعُودٍ: (أنَّ النَّبيَّ صلعم مَرَّ عَلَيه نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ، عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ لَا يُسْمِعُكُمْ فيه مَا تَكْرَهُونَ) الحديث. [خ¦7297]
          قال ابن عون: سألت نافعًا عن قولِه تعالى: {لَاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101]، فقال: لم تزل كثرة السُّؤال منذ قطُّ تُكرَه. وقال الحسن البصري في هذه الآية: سألوا النَّبي صلعم عن أمور الجاهلية الَّتي عفا الله عنها، ولا وجه للسُّؤال عما عفا الله عنه، وقيل(9): كان الرَّجل الَّذي سأل النَّبيَّ صلعم عن أبيه يتنازعُه رجلان فأخبره النَّبيُّ صلعم بأبيه منهما، وأعلم ╕ أنَّ السؤال عن مثل هذا لا ينبغي، وأنَّه إذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك السَّائل، وأدَّى ذلك إلى فضيحتِه لا سيَّما وقت سؤال رسول الله صلعم ونزول الآيات في ذلك.
          وقد تقدَّم في كتاب الفتن كراهية أمِّ حذافة لسؤالِه النَّبي صلعم عن أبيه وما قالت له في ذلك(10). فلسؤالِهم له صلعم عمَّا لا ينبغي وتعنيتُه صلعم قال للذي قال له: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النَّار، لأنَّ تعنيتَه صلعم يوجب النَّار، وقد أمر الله تعالى المؤمنين(11) بتعزيزِه وتوقيرِه وألَّا يُرفَع الصوت فوق صوتَه، وتوعَّد على ذلك بحبوط العمل بقولِه تعالى: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الحجرات:2]، ألا ترى فهم عمر / ☺ لهذا الأمر وتلافيه له، بأن برك على ركبتيه، وقال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا وقال مرَّة: إنَّا نتوب إلى الله. فسكت ╕ وسكن غضبُه، ورضي قول عُمرَ حين ذبَّ عن نبيِّه ونبَّه على التَّوبة ممَّا فيه إغضابُه أن يؤدِّي إلى غضب الله تعالى، وقد ذكرنا شيئًا مِن هذا المعنى في كتاب الفتن في باب التعوُّذ مِن الفتن(12)، والدَّليل على صواب فعل عمر قول النَّبيِّ صلعم بعد ذلك: (أَوْلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) يعني أولى لمَن عنَّت نبيَّه في المسألة وأغضبِه، ومعنى أولى عند العرب التَّهدُّد والوعيد. قال المبرِّد: يقال للرَّجل إذا أفلت مِن عظيمة: أولى لك. أي: كدت تهلك ثم أَفْلَتَّ، ويروى عن ابن الحنفية أنَّه كان يقول: إذا مات ميِّت في جواره: أولى لي، كدت والله أن أكون السَّواد المخترم.
          قال المُهَلَّب: وأصل النَّهي عن كثرة السُّؤال والتَّنطُّع في المسائل مبيَّن في كتاب الله عزَّ ووجلَّ في بقرة بني إسرائيل حين(13) أمرهم الله ╡ بذبح بقرة فلو ذبحوا أيَّ بقرة كانت لكانوا مؤتمرين غير عاصين، فلمَّا سألوا ما هي وما لونُها؟ قيل لهم: لا فارض ولا بكر؛ ضيَّق عليهم وقد كان ذلك مباحًا(14)، وكذلك ضيَّق عليهم في لونِها فقيل لهم: صفراء، فمُنعوا مِن سائر الألوان، وقد كان ذلك مباحًا لهم، ثم لمَّا قالوا: إنَّ البقر تشابه علينا، قيل لهم: لا ذلول حرَّاثة ولا ساقية للحرث أي معلَّمة لاستخراج الماء وقد كان ذلك مباحًا لهم، فعزَّ عليهم وجود هذه الصِّفة المضيَّق عليهم فيها(15) حتى أمرهم أن يشتروها بأضعاف ثمنِها عقوبة بسؤالهم عمَّا لو(16) يكن لهم به حاجة.
          وقولُه ╡: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101]يحذِّر ممَّا نزل بهؤلاء القوم ثم وعد أنَّه إن سألوا عنها حين نزول القرآن ضيَّق عليهم، وقد قال بعض أصحابنا: إنَّه بقيت منه بقية مكروهة وهو أنَّ التَّنطُّع في المسألة والبحث عن حقيقتِها يلزم منها أن يأتي(17) بذلك الشَّرع على الحقيقة الَّتي انكشفت له في البحث وذلك مثل أن يسأل عن سِلَع الأسواق الممكن فيها الغصب والنَّهب هل له شراء ذلك في سوق المسلمين، وهو يمكن فيه هذا(18) المكروه أم لا؟ فيفتى بأن له أن يبتاع ذلك، ثم إن تنطَّع، فقال: إن قام الدَّليل على السِّلعة أنَّها مِن نهب أو غصب هل لي أن أشتريها؟ فيُفتى بأن لا يشتريها فهذا الَّذي بقي مِن كراهة السُّؤال والتَّنطُّع حتى الآن في النَّسخ الَّذي كان يمكن حين نزول القرآن والتَّضييق المشروع.
          وقد سئل مالك عن قيل وقال وكثرة السُّؤال؟ فقال: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه مِن كثرة المسائل، فقد كره رسول الله صلعم المسائل وعابها، أو هو مسألة النَّاس أموالهم. وكان زيد ابن ثابت وأُبي بن كعب وجماعة مِن السَّلف يكرهون السُّؤال في العلم عمَّا لم ينزل، ويقولون: إذا نزلت النَّازلة وُفِّقَ المسئول عنها، ويرون الكلام فيما لم ينزل مِن التَّكلُّف. وقال مالك: أدركت أهل هذا البلد وما عند أحدهم علم غير الكتاب والسُّنَّة، فإدا نزلت نازلة(19) جمع الأمير لها مَن حضر مِن العلماء، فما اتَّفقوا عليه أنفذَه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلعم.
          فإن قيل: فإذا ثبت النَّهي عن كثرة السُّؤال والبحث في هذه الأحاديث، فقد جاء في كتاب الله تعالى ما يعارض ذلك، وهو الأمر بسؤال العلماء والبحث عن العلم، لقولِه(20) تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[النحل:43].
          فالجواب عن ذلك(21): أنَّ الذي(22) أمر الله تعالى عبادَه بالسُّؤال عنه هو ما ثبت وتقرَّر وجوبُه ممَّا يجب عليهم العمل به، والذي جاء فيه النَّهي هو ما لم يتعبَّد الله تعالى عبادَه به، ولم يذكره في كتابِه، وقد سُئل ابن عبَّاس عن قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤكُم(23)}[المائدة:101](24) قال: ما لم يذكر في القرآن فهو ممَّا عفا الله عنه، ألا ترى أنَّ الله تعالى لم يُجِبِ اليهود عن سؤالهم عن الرُّوح لمَّا لم يكن ممَّا لهم به الحاجة إلى علمِه، وكان مِن علم الله تعالى الَّذي لم يُطْلِع عليه أحدًا فقال لنبيِّه صلعم: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا}[الإسراء:85]، فنسبهم ╡ في سؤالِهم عمَّا لا(25) ينبغي لهم السُّؤال عنه إلى قلَّة العلم، وقال مالك: قيل وقال هو هذه الأخبار والأراجيف في رأيي، أعطى فلان كذا ومنع كذا بقول الله ╡: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}[التوبة:65]، فهؤلاء يخوضون، رواه عنه أشهب في ((جامع المستخرجة)).
          وأمَّا قول بعض اليهود حين سألوه عن الروح: لا تسألوه يُسْمِعكُم ما تكرهون. فإنَّما قال ذلك لعلمِه أنَّهم كانوا معنِّتين والمعنِّت مِن عقوبتِه أن يُخَاطَب / بما يكره.
          وأمَّا قولُه ╕ في حديث أنس: (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ: هَذَا اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟) فهذا(26) مِن السُّؤال الَّذي لا يحلُّ وقد جاء هذا الحديث بزيادة فيه مِن حديث أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لَا يَزَالُ الشَّيطَانُ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ اللهَ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ)) وفي حديث آخر: فذلك ((صَرِيْحُ الإِيْمَانِ)) رواه أبو داود حدَّثنا أحمد بن يونس حدَّثنا زهير حدَّثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أَنَّ النَّبيَّ صلعم جاءَه نَاسٌ مِنْ أَصحابِهِ فقالُوا: يا رسول الله، إنَّا(27) نجد في أنفسنا الشَّيء يعظم أن نتكلَّم به ما نحبُّ أنَّ لنا الدنيا وأنَّا تكلَّمنا به، فقال النَّبي صلعم: ((أَوَ قَدْ وَجَدْتُمُوهُ، ذَلِكَ صَرِيْحُ الإِيْمَانِ)).
          وقد ذكر ابن أبي شيبة مِن حديث الأعمش عن ذَرٍّ عن عبد الله بن شَدَّاد عن ابن عبَّاس قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صلعم فقال: إنِّي أحدِّث نفسي بالأمر لأن أكون حُمَمَةً أحبُّ إلي مِن أن أتكلَّم به. فقال له رسول الله صلعم: ((الحَمْدُ للهِ الَّذي رَدَّهُ إِلَى الوَسْوَاسِ)).
          فإن قيل: كيف سمَّى هذه الخطرة الفاسدة مِن خطرات الشَّيطان على القلب صريح الإيمان؟ قال الخطابي: يريد أنَّ صريح الإيمان هو الَّذي يُعَظِّمُ ما تجدونَه في صدوركم ويمنعُكم مِن قول ما يلقيه الشَّيطان في قلوبكم ولولاه لم يتعاظموه، ولم ينكروه ولم يُرِدْ(28) أنَّ الوسوسة نفسَها صريح الإيمان، وكيف تكون إيمانًا وهي مِن قبل الشَّيطان وكيدِه، ألا تراه صلعم حين سئل عن هذا قال: ((الحَمْدُ للهِ الَّذي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الوَسْوَسَةِ)).
          وفيه وجه آخر، قال المُهَلَّب: قولُه: (صَرِيْحُ الإِيْمَانَ) يعني الانقطاع في إخراج الأمر إلى ما لا نهاية له فلابدَّ عند ذلك مِن إيجاب خالق لا خالق له، لأنَّ المفكِّر يجد المخلوقات كلَّها لها خالق بأثر الصَّنعة فيها ولم يحدث(29) الجاري عليها والله ╡ بخلاف هذه الصِّفة لمباينتِه صفات المخلوقين، فوجب أن يكون خالق الكل، فهذا هو صريح الإيمان، لا البحث الَّذي هو مِن كيد الشَّيطان المؤدِّي إلى هذا الانقطاع ليحير العقول، فنبَّه ╕ على موضع كيدِه وتحييرِه.
          قال غيره: فإن وسوس الشَّيطان فقال: ما المانع أن يخلق الخالق نفسَه. قيل له: هذه وسوسة ينقض بعضُها بعضًا، لأنَّ بقولك يخلق قد أوجبت وجودَه تعالى، وبقولك نفسَه قد أوجبت عدمَه، والجمع بين كونِه موجودًا ومعدومًا معًا تناقض فاسد لأنَّ مِن شرط الفاعل تقدُّم وجودِه على وجود فعلِه فيستحيل كون نفسِه فعلًا له لاستحالة أن يقال إنَّ النَّفس تخلق النَّفس(30) الَّتي هي(31) هو، وهذا بيِّنٌ في حلِّ هذه الشُّبه(32) وهو صريح الإيمان.
          وقال غيرُه: إن سأل سائل عن حديث سعد وزيد بن ثابت، فقال: في هذين الحديثين دلالة على أنَّ الله تعالى يفعل شيئًا مِن أجل شيء وبسببِه(33)، وهذا يؤدِّي إلى قول القدريَّة.
          فالجواب: أنَّه قد ثبت أنَّ الله على كل شيء قدير وأنَّه بكل شيء عليم، وأنَّه لا يكون مِن أفعالِه تعالى الَّتي انفرد بالقدرة عليها ولا تدخل تحت قدر(34) العباد، ولا تكون مِن مقدورات العباد الَّتي هي كسب لهم وخلق الله(35) تعالى إلَّا والله مريد لجميع ذلك، سواء(36) كان آمرًا بذلك عبادَه أو ناهيًا لهم عنه، فغير جائز أن يقال أنَّه فعل فعلًا مِن أفعالِه بسبب مِن الأسباب أو مِن أجل داع يدعوه إلى فعلِه؛ لأنَّ السَّبب والدَّاعي فعل مِن أفعالِه، والقول أنَّه فاعل بسبب يقضي إلى تعجيزِه لحاجتِه إلى ما لا يصحُّ وقوعُه مِن فعلِه إلا بوقوع غيرِه تعالى الله عن ذلك، فإذا فسد هذا(37) وجب حمل قولِه صلعم: (إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ(38)) على غير ظاهرِه وصرفُه إلى أنَّه تعالى(39) فاعل بسؤال السَّائل الَّذي نهاه عنه، ومُقدِّر أن يحرِّم الشَّيء المسئول عنه إذا وقع السُّؤال فيه، كلُّ ذلك قد سبق به القضاء والقدر لا أنَّ السُّؤال موجب للتَّحريم وعلَّة له.
          وكذلك قولُه صلعم: (مَا زَالَ بِكُمُ الَّذي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيْعِكُمْ) يعني مِن كثرة مطالبتكم لي(40) بالخروج إلى الصَّلاة حتى خشيت أن تكتب عليكم عقابًا لكم على كثرة ملازمتكم لي في مداومة الصَّلاة بكم، لا أنَّ ملازمتَهم له موجبة لكتاب الله تعالى عليهم(41) الصَّلاة، لما ذكرناه مِن أنَّ الملازمة والكتب فعلان لله تعالى غير جائز وقوع أحدهما شرطًا في وقوع الآخر، ولو وقعت الملازمة ووقع كتاب الصَّلاة عليهم لكان ذلك ممَّا قد سبق به القضاء / والقدر في علم الله تعالى.
          وإنَّما نهاهم صلعم عن مثل هذا وشبهِه تنبيهًا لهم على ترك الغلو في العبادة وركوب القصد فيها، خشية الانقطاع والعجز عن الإتيان بما طلبوه مِن الشِّدَّة في ذلك، ألا ترى قولَه ╡ فيمَن فعل مثل ذلك: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ}[المائدة:102]، يعني فرضت(42) عليهم، فعجزوا عنها فأصبحوا بها كافرين وكان صلعم رؤوفًا بالمؤمنين رفيقًا بهم، وقد تقدَّم مثل حديث زيد بن ثابت(43) مِن رواية عائشة في أبواب(44) قيام اللَّيل في كتاب الصَّلاة، وذكرنا في توجيهِه ما لم يذكر في هذا الباب فتأملْه هناك.
          فإن قيل: فإذا حمل قولُه صلعم: (إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِهِ) على غير ظاهرِه فما وجه ذلك وإثم الجرم به؟. قيل: هو على ما تقرَّر علمُه مِن نسبة اللَّوم والمكروه إلى مَن تعلَّق بسببٍ مِن فعلٍ ما يُلَام عليه وإن قلَّ، تحذيرًا مِن مواقعةٍ(45) له فعظم جرم فاعل ذلك لكثرة الكارهين لفعلِه.
          وعرض الحائط: وسطُه، وكذلك عرض البحر وعرض النهر وسطُهما، واعترضت عرضَه، نحوت نحوَه عن صاحب «العين».


[1] في (ص): ((من سأل شيئاً)).
[2] قوله: ((النَّبيّ)) ليس في المطبوع.
[3] قوله: ((الصلاة)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((فقال)).
[5] قوله: ((عند ذلك)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((عن)) زيادة من (ص).
[7] قوله: ((أنس)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((حتى يقولوا)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((وفيه)).
[10] في (ص): ((لذلك))، وقوله: ((لسؤاله النَّبي صلعم عن أبيه وما قالت له في)) ليس في (ص)
[11] في (ص): ((المسلمين)).
[12] قوله: ((في باب التعوذ من الفتن)) ليس في (ص).
[13] قوله: ((حين)) ليس في المطبوع.
[14] زاد في (ص): ((لهم)).
[15] قوله: ((فيها)) ليس في (ص).
[16] في (ص): ((عما لم)).
[17] قوله: ((يأتي)) ليس في (ص).
[18] في (ص): ((ذلك)).
[19] في (ص): ((النازلة)).
[20] في (ص): ((بقوله)).
[21] في (ص): ((عنه)).
[22] قوله: ((الذي)) ليس في (ص).
[23] قوله: ((تسؤكم)) ليس في (ص).
[24] زاد في (ص): ((الآية)).
[25] في (ص): ((لم)).
[26] في (ص): ((هذا)).
[27] قوله: ((إنا)) ليس في المطبوع.
[28] قوله: ((يرد)) ليس في (ص).
[29] في (ص): ((والحدث)).
[30] قوله: ((النفس)) زيادة من (ص).
[31] في (ز): ((هو)) والمثبت من (ص).
[32] في (ص): ((الشبهة)).
[33] في (ص): ((وسببه)).
[34] في (ص): ((قدرة)).
[35] في (ص): ((لله)).
[36] في (ص): ((فسواء)).
[37] في (ص): ((ذلك)).
[38] في المطبوع: ((لم يحرم فحرم من أجله)).
[39] في (ص): ((إلى أن الله تعالى)).
[40] قوله: ((لي)) ليس في (ص).
[41] في (ص): ((ملازمتكم...عليكم)).
[42] في (ص): ((ففرضت)) دون قوله: ((يعني)).
[43] قوله: ((ابن ثابت)) ليس في (ص).
[44] في (ص): ((في ثواب)).
[45] في (ص): ((موافقته)).