شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم

          ░16▒ بابُ مَا ذَكَرَ النَّبيُّ صلعم وَحَضَّ عَلَيه مِنِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ، وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبيِّ صلعم وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَمُصَلَّى النَّبيِّ صلعم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ.
          فيه: جَابِرٌ: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ الرَّسُولَ صلعم عَلَى الإِسْلَامِ... الحديث. فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي... الحديث. فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إنَّما الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا). [خ¦7322]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ، كُنْتُ أُقْرِئُ ابنَ عَوْفٍ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ، قَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بِمِنًى: لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فقَالَ: إِنَّ فُلانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلانًا، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلاءِ الرَّهْطَ الَّذين يُرِيدُونَ(1) يَغْصِبُونهُمْ، قُلْتُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ ويَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ، فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا على وَجْهِهَا، فَيُطِيرُ بِهَا كُلُّ مُطِيرٍ، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ النَّبيِّ صلعم مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، ويَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ، وَيُنْزِلُوهَا على وَجْهِهَا... الحديث. [خ¦7323]
          وفيه: مُحَمَّدٌ، كُنَّا عِنْدَ أبي هُرَيْرَةَ، وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ: بَخْ بَخْ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ النَّبيِّ صلعم إِلَى(2) حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ(3)، فَيَجِيءُ الْجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ على عُنُقِي، فيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلا الْجُوعُ. [خ¦7324]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ: (قِيْلَ لَهُ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبيِّ صلعم؟ قَالَ: نَعَمْ، لَوْلَا(4) مَنْزِلَتِي(5) مِنْهُ مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ، أَتَى الْعَلَمَ الَّذي عِنْدَ دَارِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ(6)) الحديث. [خ¦7325]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ(7) يَأْتِي قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا). [خ¦7326]
          وفيه: عَائِشَةُ، قَالَتْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: ادْفِنِّي مَعَ صَوَاحِبِي، وَلَا تَدْفِنِّي مَعَ النَّبيِّ صلعم فِي الْبَيْتِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُزَكَّى. [خ¦7327]
          وفيه: أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ: ائْذَنِي لِيْ أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ، فَقَالَتْ: إِيْ وَاللهِ، قَالَ: وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَتْ: لَا وَاللهِ، لَا أُوثِرُهُمْ بِأَحَدٍ أَبَدًا. [خ¦7328]
          وفيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَيَأْتِي الْعَوَالِيَ، وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ. قَالَ يُونُسَ: وَبُعْدُ الْعَوَالِيَ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلاثَةٌ). [خ¦7329]
          وفيه: السَّائِبُ: (كَانَ الصَّاعُ على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، وَقَدْ زِيدَ فِيهِ). [خ¦7330]
          وفيه: أَنَسٌ، أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في مِكْيَالِهِمْ، وَبَارِكْ لَهُمْ في صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ)، يعني أَهْلَ الْمَدِينَةِ. [خ¦7331]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ: (أَنَّ الْيَهُودَ جَاؤُوا إِلَى النَّبيِّ صلعم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ موضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ الْمَسْجِدِ). [خ¦7332]
          وفيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ، فَقَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا). [خ¦7333]
          وفيه: سَهْلٌ، أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِدَارِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَبَيْنَ الْمِنْبَرِ مَمَرُّ الشَّاةِ. [خ¦7334]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي). [خ¦7335]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ: (سَابَقَ النَّبيُّ صلعم بَيْنَ الْخَيْلِ، فَأُرْسِلَتِ الَّتي أُضْمِرَتْ مِنْهَا، وَأَمَدُهَا الْحَفْيَاء إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، والَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ أَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ). [خ¦7336]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ، سَمِعْتُ عُمَرَ على مِنْبَرِ النَّبيِّ صلعم. [خ¦7337]
          وفيه(8): أَنَّ السَّائِبَ سَمِعَ عُثْمَانَ: خَطَبَنَا على مِنْبَرِ النَّبي صلعم. [خ¦7338]
          وفيه: عَائِشَةُ، كَانَ يُوضَعُ لِي وَلِرَسُولِ اللهِ صلعم هَذَا الْمِرْكَنُ، فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا. [خ¦7339]
          وفيه: أَنَسٌ: / (حَالَفَ النَّبيُّ صلعم بَيْنَ الأنْصَارِ وَقُرَيْشٍ فِي دَارِي الَّتي بِالْمَدِينَةِ، وَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو على أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ). [خ¦7340] [خ¦7341]
          وفيه: أَبُو بُرْدَةَ، قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَلَقِيَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ سَلامٍ، فَقَالَ لِي: انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ(9) الْمَنْزِلِ، فَأَسْقِيَكَ في قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ النَّبيُّ صلعم وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فيه، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَأسقَانِي سَوِيقًا، وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا، وَصَلَّيْتُ في مَسْجِدِهِ. [خ¦7342]
          وفيه: عُمَرُ، أنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، وَهُوَ(10) بِالْعَقِيقِ، أَنْ صَلِّ في هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ. وروي عُمْرَةٌ في حَجَّةٍ). [خ¦7343]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ: (أنَّ النَّبيَّ صلعم أُرِيَ وَهُوَ في مُعَرَّسِهِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ). [خ¦7345]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ: (وَقَّتَ النَّبيُّ صلعم قَرْنًا لأهْلِ نَجْدٍ، وَالْجُحْفَةَ لِأَهْلِ الشَّامِ، وَذَا الْحُلَيْفَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ: وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ، وَذُكِرَ لَهُ الْعِرَاقُ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِرَاقٌ يَوْمَئِذٍ). [خ¦7344]
          قال المُهَلَّب: غرضُه في هذا الباب تفضيل المدينة بما خصَّها الله تعالى به مِن معالم الدِّين، وأنَّها دار الوحي ومهبط الملائكة بالهدى والرَّحمة، وبقعة شرَّفها الله بسكنى رسولِه صلعم وجعل فيه(11) قبرَه ومنبرَه وبينَهما روضة مِن رياض الجنَّة، وجعلَها كالكير تنفي خبث الفضَّة وتخلص مَن بقي فيها مِن أن يشوبهم ميل عن الحق، ألا ترى قول ابن عوف لعُمر بن الخطاب: إنَّها دار الهجرة والسُّنَّة، وإنَّ أهلَها أصحاب النَّبي صلعم الَّذين خصَّهم الله سبحانَه بفهم العلم وقوة التَّمييز والمعرفة بإنزال الأمور منازلَها.
          وأمَّا حديث أبي هريرة فإنَّما ذكر وقوعَه بين المنبر(12) وحجرة عائشة اللَّذين هما مِن معالم الدِّين وروضة مِن رياض الجنَّة، إعلامًا منه بصبرِه على الجوع في طلب العلم، ولزوم النَّبيِّ صلعم حتى حفظ مِن العلم ما كان حجَّة على الآفاق ببركة صبرِه على المدينة.
          وأمَّا(13) قول ابن عبَّاس: ((شَهِدْتُ العِيْدَ وَلَوْلَا مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ)) فمعناه أنَّ صغير أهل المدينة وكبيرَهم ونسائَهم وخدمَهم ضبطوا العلم والسُّنن(14) معاينة منهم في مواطن العمل مِن شارعِها المبيِّن عن الله ╡ وليس لغيرِهم هذه المنزلة.
          وأمَّا إتيان النَّبيِّ صلعم قُباء فمعناه معاينة(15) النَّبي صلعم ماشيًا وراكبًا في قصدِه مسجد قباء، وهو معلم مِن معالم الفضل ومشهد مِن مشاهده صلعم، وليس ذلك لغير المدينة.
          وأمَّا حديث عائشة وأمرُها أن تدفن مع صواحبِها كراهة أن تزكَّى بالدَّفن في بيتِها مع النَّبيِّ صلعم وصاحبيه، لئلَّا يظن أحد أنَّها أفضل الصَّحابة بعد النَّبيِّ صلعم وصاحبيه، ألا تسمع قول مالك للرَّشيد حين سألَه عن منزلة أبي بكر وعمر مِن النَّبي صلعم في حياتِه، فقال له: منزلتُهما منه في حياتِه كمنزلتِهما منه بعد مماته. فزكَّاهما بالقرب منه في البقعة المباركة والتربة الَّتي خلق الله منها خير البريَّة، وأعادَه فيها بعد مماته. فقام لمالك الدَّليل مِن دفنِهما معه على أنَّهما أفضل أصحابِه(16) لاختصاصِهما بذلك.
          وقد احتجَّ الأبهري على أنَّ المدينة أفضل مِن مكَّة بأنَّ(17) النَّبيَّ صلعم مخلوق مِن تربة المدينة، وهو أفضل البشر، فكانت تربتُه أفضل التُّرب.
          قال المُهَلَّب: وأمَّا حديث أنس أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يصلِّي العصر فيأتي العوالي والشَّمس مرتفعة فمعناه أنَّ بين العوالي ومسجد المدينة للماشي معلم مِن معالم ما بين الصَّلاتين يستغني الماشي فيها يوم الغيم عن معرفة الشَّمس، وذلك معدوم في سائر الأرض، فإذا كانت مقادير الزَّمان معيَّنة بالمدينة لمكان بادٍ للعيان ينقلُه العلماء إلى أهل الآفاق ليتمثَّلوه في أقاصي البلدان، فكيف يساويهم أهل بلدة(18) غيرها، وكذلك دعاؤُه لهم بالبركة في مكيالِهم خصَّهم مِن بركة دعوتِه ما اضطر أهل الآفاق إلى القصد إلى المدينة في ذلك المعيار المدعوِّ له بالبركة، ليمتثلوه ويجعلوه سنَّة في معاشِهم وما فرض الله تعالى عليهم لعيالهم(19)، وظهرت البركة لأهل كلِّ بلدة في ذلك المكيال.
          وأمَّا رجمُه لليهوديَّين(20) عند موضع الجنائز فإنَّ الموضع قد صار علمًا لإقامة الحدود وللصَّلاة على الجنائز خارج المسجد، وبه قال مالك فهمًا مِن الحديث.
          وأمَّا قولُه: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) فمحبَّتُه ╕ للجبل توجب له بركة ترغِّب في مجاورتِه لها، وعلى هذا التَّأويل تكون محبَّتُه للجبل ومحبَّة الجبل له حقيقة لا مجازًا بأن يحدث الله في الجبل محبة، ويكون ذلك مِن آيات نبوَّته. وقيل فيه وجه آخر أنَّ قولَه: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) / هو على المجاز يريد أهل الجبل كقولِه تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ}[يوسف:82]، يريد أهل القرية.
          وأمَّا مقدار ممرِّ الشَّاة بين الجدار والمنبر فذلك معلم للنَّاس وسنَّة ممتثلة في موضع المنابر ليدخل إليها مِن ذلك الموضع فينقض مِن القبر وينظف.
          وأمَّا ذكر مدى ما بين الحفياء وثنيَّة الوداع فمسافة ذلك سنَّة ممتثلة ميدانًا لخيل الله تعالى المضمَّرة.
          وأمَّا خطبة عمر وعثمان على منبرِه(21) صلعم فإنَّ ذلك سنَّة ممتثلة، وإنَّ(22) الخطبة تكون على المنابر لا بجانبِها ليُوصِل الموعظة إلى أسماع النَّاس إذا أشرف عليهم، وكذلك مركن الماء الَّذي كانت تشرع فيه عائشة مع النَّبيِّ صلعم للغسل، ومقدار ما يكفيها مِن الماء سنّة، ولا يوجد ذلك المركن إلَّا بالمدينة، وكذلك موضع مخالفتِه ╕ بين قريش والأنصار بالمدينة معروف ثبتت ببقائِه جواز المحالفة في الإسلام على أمر الدِّين والتَّعاضد فيه على المخالفين، وقد تقدَّم(23) في كتاب الأدب ما يجوز مِن الحلف في الإسلام وما لا يجوز في باب الإخاء والحلف، فتأمَّلْه فيه، وكذلك قدحُه ╕ ومكان صلاتِه لا يوجد ذلك بغير(24) المدينة، وكذلك وادي العقيق المبارك يوحي الله تعالى إلى رسولِه صلعم وأن َّالله أنزل فيه بركة إحلال الاعتمار في أشهر الحج، وكان محرَّمًا قبل ذلك على الأمم، وأمرُه بالصَّلاة فيه لبركتِه، وليس ذلك مأمورًا به إلَّا في هذا الوادي الَّذي يقصدُه أهل الآفاق للصَّلاة فيه والتَّبرُّك به(25).
          وكذلك توقيت النَّبيِّ صلعم المواقيت لأهل الآفاق معالم للحج وللعمرة(26) رفقًا من الله تعالى بعبادِه وتيسيرًا عليهم مشقَّة الإحرام مِن كلِّ فجٍّ عميق، فهذه بركة مِن الله تعالى في الحجاز موقوفة للعباد ليست(27) في غيرِه مِن البلاد، وفي جعل الله ╡ بطحاء العقيق المباركة مهلًّا للنَّبيِّ صلعم ولأهل المدينة، وهي آخر جزائر المدينة، على رأس عشرة أيام مِن مكة وغيرِها مِن المواقيت على رأس ثلاثة أيَّام مِن مكة فضل كبير لأهل(28) المدينة، لحملِه ╡ عليهم مِن مشقَّة الإحرام أكثر ممَّا حمل على غيرِهم، وذلك لعلمِه بصبرِهم(29) على العبادة واحتسابهم لتحمُّلِها.
          وكذلك صبرُهم على لأواء المدينة وشدَّتها حرصًا على البقاء في منزل الوحي ومثبت الدِّين؛ ليكون الناس في موازنهم إلى يوم القيامة كما صاروا في موازنهم بإدخالهم أوَّلًا في الدِّين لما وضع فيهم مِن القوَّة والشَّجاعة الَّتي تعاطوا بها مقارعة أهل الدُّنيا، وضمنوا عن أنفسِهم نصرة نبي الهدى فوفَّى الله بضمانِهم ونصرَهم(30) على أعدائِهم، وتمَّت كلمة الله(31) ودينُه بهم فكانوا أفضل النَّاس، لقربِهم مِن رسول الله صلعم وعلمِهم بأحوالِه(32) وأحكامِه وآدابِه وسيرِه.
          ووجب لمَن كان على مذاهب أهل المدينة حيث كان مِن الأرض نصيب وافر مِن بركة المدينة(33) واستحقُّوا أن يكونوا مِن أهلِها لاتِّباعِهم سنن رسولِه صلعم الثَّابتة عندهم مِن علمائِهم والمتَّبعين لهم بإحسان قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[التوبة:100]، و((المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)).
          ووجب أيضًا أن يكون لأهل مكَّة مِن ذلك نصيب، لأنَّ عندهم معالم فريضة الحجِّ كلِّها، وقد عاينوا مِن صلاتِه وأقوالِه صلعم في المرَّات الَّتي دخلَها ما صاروا به عالمين، ولهم مِن بركة ذلك نصيب وافر وحظٌّ جزيل، وقد اختلف أهل العلم فيما هم فيه أهل المدينة حجَّة على غيرهم مِن الأمصار، فكان الأبهري يقول: أهل المدينة حجَّة على غيرِهم مِن طريق الاستنباط، ثمَّ رجع فقال: قولُهم مِن طريق النَّقل أولى مِن طريق غيرِهم، وهم وغيرُهم سواء في الاجتهاد. وهذا قول الشَّافعي.
          وذهب أبو بكر بن الطَّيِّب إلى أنَّ قولهم أولى مِن طريق الاجتهاد والنقل جميعًا. وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنَّهم ليسوا حجَّة على غيرِهم لا مِن طريق النَّقل ولا مِن طريق الاجتهاد، واحتجَّ مَن قال هم أولى بالاجتهاد مِن غيرِهم بأنَّهم شاهدوا التَّنزيل وأقاويل النَّبيِّ صلعم وعرفوا معاني خطابِه وفحوى كلامِه، فلذلك هم أولى مِن غيرهم بالاستنباط. واحتجَّ أصحاب الشَّافعي فقالوا: مَن قال هذا القول فقد قال بالتَّقليد وقد أخذ علينا النَّظر في أقاويل الصَّحابة والتَّرجيح في اختلافِهم، فإذا قام لنا الدَّليل على أحد القولين وجب المصير إليه، وإذا صح هذا بطل التَّقليد، وإنَّما هم أولى مِن غيرِهم مِن طريق النَّقل / لصحَّة عدالتِهم ومعاينتِهم التَّنزيل ومشاهدتِهم للعمل فأمَّا الاستنباط فالنَّاس فيه كلُّهم سواء.
          وقوله (بَخْ بَخْ) كلمة تقال عند الإعجاب بالتَّخفيف والتَّثقيل.
          و(المِرْكَنُ) شبيه تَوْر مِن خزف يستعمل للماء.


[1] كذا في (ز) و(ص) والمطبوع، من دون ((أن)).
[2] في (ص):((وحجرة)).
[3] في (ص): ((عليه)).
[4] في (ص): ((ولولا)).
[5] في (ص): ((منزلي)).
[6] في (ص): ((فصلَّى وخَطب)).
[7] قوله: ((كان)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((أهل)) ليس في (ص).
[10] قوله: ((وهو)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((فيها)).
[12] قوله: ((بين المنبر)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((فأما)).
[14] قوله: ((والسنن)) ليس في (ص).
[15] قوله: ((معاينة)) ليس في (ص).
[16] في (ص): ((الصحابة)).
[17] في (ص): ((فإن)).
[18] في (ص): ((بلد)).
[19] في (ص): ((في عيالهم)).
[20] في (ص): ((اليهوديين)).
[21] في (ص): ((على منبر النَّبي)).
[22] في (ص): ((فإن)).
[23] في (ص): ((وقد ذكر)).
[24] في (ص): ((لا يوجد في غير المدينة)).
[25] في (ص): ((فيه)).
[26] في (ص): ((والعمرة)).
[27] في المطبوع: ((وليست)).
[28] في المطبوع: ((ولأهل)).
[29] في (ص): ((بتصبرهم)).
[30] قوله: ((ونصرهم)) ليس في المطبوع.
[31] في (ص): ((ربِّكَ)).
[32] في (ز): ((بأحوالهم)) والمثبت من (ص).
[33] قوله: ((المدينة)) ليس في (ص).