شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب مَن شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين قد بين الله حكمهما

          ░12▒ بابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللهُ صلعم حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلامًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلعم: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ في الانْتِفَاءِ مِنْهُ). [خ¦7314]
          وفيه: ابنُ عَبَّاس: / (أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبيِّ صلعم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ على أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: اقضِ الَّذي لله، فَإِنَّ اللهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ). [خ¦7315]
          قال المؤلِّف: قولُه: (مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ، فَبَيَّنَ لِيَفْهَمَ السَّائِلُ) هذا هو القياس بعينِه والقياس في لغة العرب التَّشبيه والتَّمثيل، ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم شبَّه له ما أنكر مِن لون الغلام بما عرف في نتاج الإبل فقال له صلعم: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟) إلى قولِه: ((لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ)) فأبان له صلعم بما يَعرِف أنَّ الإبل الحمر تنتج الأورق(1) أنَّ كذلك المرأة البيضاء تلد الأسود، وكذلك قولُه صلعم للمرأة الَّتي سألته الحج عن أمِّها فقال لها: (أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟) قالت: نعم. قال: ((فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ)) فشبَّه لها نبيُّ الله ╕ دِين الله بما تَعرف(2) مِن دَيْن العباد، غير أنَّه قال لها: ((فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّّ)).
          وهذا(3) كلُّه هو عين القياس، وبهذين الحديثين احتجَّ المزني على مَن أنكر القياس، قال أبو تمَّام المالكي: اجتمعت الصَّحابة على القياس، فمِن ذلك أنَّهم أجمعوا على قياس الذَّهب على الوَرِق في الزَّكاة. وقال أبو بكر الصدِّيق: أقيلوني بيعتي. فقال علي: والله لا نقيلك، رضيك رسول الله لديننا، فلا نرضاك لدنيانا؟ ! فقاس الإمامة على الصَّلاة، وقاس الصِّدِّيق الزَّكاة على الصَّلاة، وقال(4): والله لا أفرِّق بين ما جمع الله. وصرَّح علي بالقياس في شارب الخمر بمحضر الصَّحابة، وقال: إنَّه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فحدُّه حدُّ القاذف. وكذلك لمَّا قال له الخوارج: لم حكمت؟ قال: قد أمر الله تعالى بالحكمين في الشِّقاق الواقع بين الزوجين فما بين المسلمين أعظم.
          وهذا ابن عبَّاس يقول: ألا(5) اعتبروا، الأصابع بالأسنان اختلفت منافُعها واستوت أروشُها، وقال: ألا يتَّقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا، وكتب عُمَر بن الخطَّاب إلى أبي موسى الأشعري يعلمُه القضاء فقال له: اعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور عند ذلك.
          واختلف علي وزيد في قياس الجدِّ على الإخوة، فقاسَه عليٌّ بسبيل انشعبت منه شعبة ثم انشعبت مِن الشُّعبة شعبتان، وقاس ذلك زيد بشجرة انشعب منها غصن، وانشعب مِن الغصن غصنان.
          وقال ابن عمر: وقَّت النَّبي صلعم لأهل نجد قَرْنًا ولم يوقِّت لأهل العراق، فقال عُمر: قيسوا مِن نحو العراق كنحو قَرْن. قال ابن عُمر: فقاس النَّاس مِن ذات عرق. ولو ذكرنا كل ما قاسَه الصَّحابة لكثر به الكتاب غير أنَّه موجود في الكتب لمَن ألهمَه الله رشدَه، وقد قيل للنَّخعي: هذا الَّذي تفتي به أشيئًا سمعتَه؟ قال: سمعت بعضَه فقست ما لم أسمع على ما سمعت. وربَّما قال: إنِّي لأعرف بالشَّيء الواحد مائة شيء.
          قال المزني: فوجدنا بعد النَّبيِّ صلعم أئمَّة الدِّين فهموا عن الله تعالى ما أنزل إليهم وعن الرَّسول صلعم ما أوجب عليهم، ثم الفقهاء إلى اليوم هلم جرًّا، استعملوا المقاييس والنَّظائر في أمر دينِهم، فإذا ورد عليهم ما لم يُنصَّ عليه نظروا، فإن وجدوه مشبهًا لما سبق الحكم فيه مِن النَّبيِّ صلعم أجروا حكمَه عليه، وإن كان مخالفًا له فرَّقوا بينَه وبينَه، فكيف يجوز لأحد إنكار القياس؟ ! ولا ينكر ذلك إلا مَن أعمى الله قلبَه وحبَّب إليه مخالفة الجماعة.
          قال المؤلِّف: وإنَّما أنكر القياس: النَّظَّام وطائفة من المعتزلة، واقتدى بهم في ذلك مَن ينسب إلى الفقه داوود بن علي، والجماعة هم الحجَّة ولا يلتفت إلى مَن شذَّ عنها.


[1] في (ص): ((الورق)).
[2] في المطبوع: ((يعرف)).
[3] في (ص): ((هذا)).
[4] في (ص): ((فقال)).
[5] قوله: ((ألا)) ليس في (ص).