مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب إلقاء النذر العبد إلى القدر

          ░6▒ باب إلقاء النذر العبد إلى القدر
          فيه حديث ابن عمر: نهى رسول الله صلعم عن النذر وقال: ((إنه لا يرد شيئاً)).
          وحديث أبي هريرة، عن النبي صلعم قال: ((لا يأتي ابن آدم النذر بشيء... الحديث)).
          هذا أبين شيء في القدر كما نبه عليه المهلب وإنه أمر قد فرغ الله منه وأحكمه، لا أنه شيء يختاره العبد، فإذا أراد أن يستخرج به من البخيل شيئاً ينفعه به في آخرته ودنياه سبب له شيئاً مخيفاً، أو مطمعاً فيحمله ذلك الخوف أو الطمع على أن ينذر لله نذراً من عتق أو صدقة أو صيام، إن صرف الله عنه ذلك الخوف، أو أتاه بذلك المطموع فيه، فلا يكون إلا ما قضى الله في أم الكتاب، لا يحيله النذر الذي نذره عما قدره، وقد استخرج به ما لم يسمح به لولا المخوف الذي هرب منه، أو المطموع الذي حرص عليه حتى طابت نفسه بما لم تكن تطيب قبل ذلك.
          ونهيه ◙ عن النذر، وهو من أعمال الخير أبلغ زاجراً عن توهم العبد أنه يدفع عن نفسه ضرًّا، أو يجلب إليها نفعاً، أو يختار لها ما يشاء. ومتى اعتقد ذلك فقد جعل نفسه مشاركاً لله تعالى في خلقه، ومجوزاً عليه ما لم يقدره، تعالى عما يقولون، ودل هذا أن اعتقاد القلب لما لا يجب اعتقاده أعظم في الإثم من أن يكفر بالصدقة، والصلاة، والصوم، والحج، وسائر أعمال الجوارح التي ينذرها؛ لأن نهيه ◙ عن هذا النذر وإن كان خيراً ظاهراً يدل على أنه حابط من الفعل، حين توهم به الخروج عما قدره الله، فإن سلم من هذا الظن، واعترف أن نذره لا يرد شيئاً قد قدره الله عليه، وأن القدر سبب له بما أخافه به استخراج صدقة وهو شحيح بمثلها، فإنه مأجورٌ بنذره، ولم يكن حينئذ نذره منهيًّا عنه، ولذلك والله أعلم عرف الله نبيه بهذا الحديث ليعرف أمته، لا يجب أن يعتقدوا في النذر، فلا يحبط عملهم به.
          والنهي ابتداء جائز، والمنهي عنه المعلق، كأنه يقول: لا أفعل يا رب خيراً حتى تفعل بي خيراً، فإذا دخل فيه فعليه الوفاء.
          قوله: (لا يأتي) كذا في الأصول، وفي رواية أبي الحسن: يأت، بغير ياء، وكأنه كتبه على الوصل مثل قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18] بغير واو، وضبطه في رواية أبي الحسن بضم التاء، وليس ببين، قاله ابن التين: والصحيح نصبها.
          قوله: (لم يكن قدرته) معناه: أي: أنا قدرت عليه الشدة فيحلها عنه، والنذر لا يحل عنه الشدة، فهو لا يغني عنه شيئاً، ولا بد أن يأتيه الذي قدر عليه من غرق أو سلامة، فيجعل الناذر هذا الذي يجعل، فيسلمه الله / من الشدة بنذره، ويكون ذلك النذر استخرجه من البخيل للشدة التي عرضت له.
          قال الخطابي وغيره: وفي قوله: ((أستخرج به من البخيل)) دليل على وجوب النذر؛ إذ لو كان غير واجب لم يستخرج به. قلت: إلا في نذر اللجاج والغضب، كأن كلمته: فلله علي كذا، فالأظهر أنه مخير بين الوفاء بما التزم وبين أن يكفر كفارة يمين.
          وقال مجاهد: في قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] هو أمر بالوفاء لكل ما نذر، وقال ابن عباس: هو نحو ما نذر. وقيل: هو رمي الجمار، وليس ببين؛ لأن ذلك ليس بنذر.