مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا}

          ░4▒ باب {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب:38]
          فيه خمسة أحاديث:
          1- حديث أبي هريرة: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها)) سلف في النكاح.
          2- حديث أسامة أتى إلى رسول الله رسول إحدى بناته... الحديث وسلف في بابه.
          3- حديث أبي سعيد في العزل: ((لا عليكم أن لا تفعلوا)) سلف في موضعه.
          4- حديث حذيفة قال: لقد خطبنا النبي صلعم خطبةً... الحديث.
          5- حديث علي: كنا جلوسا مع رسول الله ومعه عود ينكت في الأرض... الحديث.
          غرضه في الباب كما نبه عليه المهلب أن يبين أن جميع مخلوقات الله بأمره فكلمة كن، من حيوان وغيره، أو حركات العباد، واختلاف إرادتهم وأعمالهم بمعاص أو طاعات، كل مقدر بالأزمان والأوقات، لا مزيد في شيء منها ولا نقصان عنها، ولا تأخير لشيء منها عن وقته، ولا يقدم قبل وقته.
          ألا ترى قوله: ((لا تسئل المرأة طلاق أختها)) لتصرف حظها إلى نفسها ولتنكح، فإنه لا تنال من الرزق إلا ما قدر لها كانت له زوجة أخرى أو لم تكن.
          قوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فيه دليل على إبطال قول أهل الجبر؛ لأن التيسير غير الجبر، واليسرى: العمل بالطاعة. والعسرى: العمل بالمعصية.
          وفي حديث علي كما نبه عليه الطبري: إن الله لم يزل عالماً بمن يطيعه فيدخله الجنة، وبمن يعصيه فيدخله النار. ولم يكن استحقاق من استحق الجنة منهم بعمله السابق فيهم، ولا استحقاق من يستحق منهم النار لعلمه فيهم، ولا اضطر أحداً منهم علمه السابق إلى طاعة ولا معصية، ولكنه جل جلاله نفذ علمه فيهم قبل أن يخلقهم، وما هم عاملون، وإلى ما هم إليه صائرون، إذ كان لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقهم وبعد ما خلقهم؛ ولذلك وصف أهل الجنة فقال: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} إلى قوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:22-24]، وقال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وكذلك قال في أهل النار: {ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28]، فأخبر أنه أثاب أهل طاعته جنته بطاعته، وجازى أهل النار بمعصيتهم إياه، ولم يخبرنا أنه أدخل من أدخل منهم النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق في علمه أن هذا من أهل السعادة والجنة، ويعمل بطاعته، وفي هذا أنه من أهل الشقاء، وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته؛ فلذلك أمر تعالى ونهى ليطيعه الطائع منهم، فيستوجب بطاعته الجنة، ويستحق العقاب منهم العاصي بمعصيته، فيدخل بها النار، ولتتم حجة الله على خلقه.
          فإن قلت: فما معنى قوله إذا: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) إن كان الأمر كما وصف من أن الذي سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحداً من الفريقين إلى الذي كان يعمل، ويمهد لنفسه في الدنيا، ولم يجبره على ذلك. بل هو أن كل فريق من هذين مسهل له العمل الذي اختاره لنفسه مزين له، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} إلى قوله: {حَكِيمٌ} [الحجرات:7]، وأما أهل الشقاء فإنه زين لهم سوء أعمالهم؛ لإيثارهم لها على العمل بطاعته، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، وكما قال: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}الآية [فاطر:8].
          وهذا يصحح ما قلنا: من أن علمه تعالى النافذ في خلقه بما هم عاملون، وكتابه الذي كتبه قبل خلقه أتاهم بأعمالهم لم يضطر أحداً منهم إلى عمله ذلك؛ لأن المضطر إلى الشيء لا شك أنه يكره عليه لا محبة له، بل هو له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفره أهل الإيمان، والفاسق / يناصب دون فسوقه الأبرار، محاماة من هذا عن كفره الذي اختاره على الإيمان، وإيثاراً من هذا على الطاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجته دون إيمانه، ويؤثر العناء والنصب دون ملاذه وشهواته؛ حبًّا لما هو له مختار من طاعة ربه على معاصيه، وأنى يكون مضطرًّا إلى ما يعمله من كانت هذه صفته، فبان أن معنى قوله ◙: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) هو أن كل فريقي السعادة والشقاوة مسهل له العمل الذي اختاره، مزين ذلك له، محبب إليه كما قلنا.
          قوله: (يجود بنفسه) أي هو في الشقاق فقال جاد بنفسه عند الموت يجود جوداً.
          قوله: (فلتصبر ولتحتسب) ولم يقل: فلتصبرين؛ لأنها غائبة، والغائبة لا يخاطب بما يخاطب به الحاضر. وقال الداودي: إنما خاطب الرسول، ولو خاطب المأمور بالصبر، لقال: فاصبري واحتسبي.
          قوله: (لا عليكم ألا تفعلوا) قيل: هو على النهي، وقيل: على الإباحة للعزل؛ أي: لكم أن تعزلوا، وليس فعل ذلك موءودة؛ بدليل حديث جابر فيه، واحتج به فقهاء الأمصار على داود في إباحته بيع أمهات الأولاد؛ لأن الإحبال لو كان لا يمنع البيع لقال: وأي حاجة لكم إلى العزل، والبيع جائز وإن حملت؛ فلولا أن الحبل يبطل الثمن أي: في قولهم: (ونحب المال)، وإلا لم يكن يقرهم على هذا الاعتقاد وتكلف الحيلة له.
          وقال من احتج لداود: لا دليل في ذلك؛ لأن ظاهره أنهم كانوا يريدون الفداء، فاحتمل تعذر ذلك حتى يلدن، وإلا صار أولاد المسلمين في أيدي الكفار، ولعل العرب الذي كان ذلك السبي منهم إذا حملت من مسلم لا يفتدونها، فإن فادى بها فيسير من المال؛ لأن الإحبال ينقصهن، فعلى هذا سألوا إن صح الحديث أن الإيلاد يمنع البيع.
          قال: وفيه فساد آخر، وهو أن وطء السبي والالتذاذ بهن يحرم حتى يقسمن ويستبرئن بعد الملك، فكيف أرادوا وطأهن؟ ولعل القوم إنما أرادوا الالتذاذ بهن لشدة العزبة، فظنوا أن وطأها فيما دون الفرج مباح، إذا اجتنبوا موضع الولد، فأعلمهم الشارع أن الماء يسبق إلى الفرج، فيكون معه الولد مع العزل، ليس لهم تحريمه، وإذا احتمل ذلك لم يكن فيه دليل على منع بيعهن.
          وفي قوله: (ما من نسمة كائنة إلا وهي كائنة) يدل: أن الولد يكون مع العزل، ولهذا إذا ادعى العزل حرم النفي على الصحيح عندنا.