الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن النبي أعطاه دينارًا يشتري به شاةً فاشترى له به شاتين

          3642- 3643- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ): أي: المديني، قال: (حَدَّثَنَا): وفي ((اليونينية)): <أخبرنا> (سُفْيَانُ): أي: ابن عُيينة، قال: (حَدَّثَنَا شَبِيبُ): بفتح الشين المعجمة وكسر الموحدة الأولى (ابْنُ غَرْقَدَةَ): بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة فدال مهملة بعد القاف؛ أي: السُّلمي _بضم السين_ الكوفي من صغارِ التابعين الثِّقات، وليس له في البُخاري إلا هذا الحديث.
          (قَالَ): أي: شبيب (سَمِعْتُ الحَيَّ): بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية؛ أي: القبيلة، والمراد قبيلته المنسوبين إلى بارقٍ جبل باليمن نزله بنو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرٍو بن عامر مزيقيا، فنسبوا إليه، وهذا يقتضِي أن يكون سمعه من جماعة أقلهم ثلاثة.
          وقال البرماويُّ تبعاً للكرماني: ورواية ((الحي)) وإن كانوا مجاهيل لكن قد عُلم أن ((شبيباً)) لا يروي إلا عن عدلٍ، أو لما كان الحديث ثابتاً بالطَّريق المعلوم اعتمدَ على ذلك فلم يبال بالإيهام، أو أراد نقله بوجه آكد إذ فيه إشعارٌ بأنه لم يسمع من رجل واحدٍ فقط بل من جماعةٍ متعدِّدة وربما يفيد خبرهُم القطع به.
          وقال الزركشيُّ: صدر هذا الحديث ليس من شرط البخاري بجهالة الحي، وإنما قصدَ البخاري الحديث الذي بعدَه، ولكنه لما سمع الكلَّ أوردَه كما سمع. انتهى.
          (يُحَدِّثُونَ): بضم التحتية أوله وكسر الدال المشددة، ولأبي ذرٍّ: <يَتَحدَّثون> بفتح التحتية وزيادة فوقية وفتح الدال المشددة (عَنْ عُرْوَةَ): أي: ابن الجعد، ويقال: ابن أبي الجعد، وقيل: اسم أبيه: عياض البارقي _بموحدة وقاف_ الصَّحابي الكوفي، وهو أول قاضٍ قضى بالكوفة، وقال الحافظ أبو ذرٍّ: مما في ((هامش اليونينية)): ((عروة هو البارقي ☺)).
          (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي لَهُ): أي: للنبي (بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى): أي: عروة (لَهُ): أي: للنبي عليه السلام / (بِهِ): أي: بالدينار (شَاتَيْنِ): ولأحمد من رواية أبي لبيد عن عروة قال: ((عرضَ للنَّبي صلعم جلَبٌ فأعطاني ديناراً فقال: أي عروة ائتِ الجلبَ فاشتر لنا شاةً، قال: فأتيتُ الجلبَ فساومتُ صاحبَه فاشتريتُ منه شاتين بدينار)).
          (فَبَاعَ): أي: عروة (إِحْدَاهُمَا): أي: إحدى الشَّاتين (بِدِينَارٍ): أي: وبقيَ معه دينار، وفي رواية أبي لبيد: ((فلقيني رجلٌ فساومَني فبعتُه شاة بدينار وجئتُ بالدينار الآخر)).
          (وَجَاءَهُ): ولأبوي ذرٍّ والوقت: <فجاءه> أي: فجاء عروةُ النبيَّ عليه السلام (بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا): أي: النبي صلعم (لَهُ): أي: لعروة (بِالْبَرَكَةِ): بفتحات (فِي بَيْعِهِ): أي: شرائه، كما عند أحمد فقال: ((اللهمَّ بارك له في صفقتهِ)).
          (فَكَانَ): أي: عروة، وفي أكثرِ الأصول: <وكَانَ> بالواو (لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ): ولأحمد قال: ((فلقد رأيتُني أقفُ بكنَّاسةِ الكوفةِ فأربحُ أربعين ألفاً قبلَ أن أصلَ إلى أهلي قال: وكان يشتري الجوَاري ويبيع)).
          وفي هذا الحديث أنَّه أمضَى البيع وارتضَاه، واستدلَّ به على جواز بيعِ الفضُولي، وتوقَّفَ الشافعيُّ فتارة قال: لا يصحُّ؛ لأن هذا الحديث غير ثابتٍ وهذه رواية المزني عنه، وتارة قال: إن صحَّ الحديث قلتُ به، وهذه رواية البُويطي عنه، وأجاَب من لم يأخذ بها بأنها واقعةً عين فيحتملُ أن عروة كان وكيلاً في البيعِ والشِّراء معاً.
          قال في ((الفتح)): وهذا بحثٌ قوي يقفُ به الاستدلال بهذا الحديثِ على جواز تصرُّف الفضُولي. انتهى.
          والمشهور عن مالك أنه يصح بيع الفضُولي، وكذا أجازه أبو حنيفة إن لم يرده المالك. انتهى.
          (قَالَ سُفْيَانُ): أي: ابن عُيينة بالإسناد السابق (كَانَ الحَسَنُ): بفتحتين (ابْنُ عُمَارَةَ): بضم العين وتخفيف الميم؛ أي: البَجلي مَولاهم الكوفي، قاضي بغداد زمن المنصُور ثاني خلفاء بني العباس، مات في خلافته سنة ثلاث أو أربع وخمسين ومئة.
          قال في ((الفتح)): وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وكان الحسنُ من الفقهاء المتفق على ضعفِ حديثهم، قال ابن حبَّان: كان يدلسُ ما يسمعَه من الضُّعفاء عن الثقات.
          وقال أحمد بنُ حنبل: الحسنُ بن عُمارة منكرُ الحديث أحاديثُه موضوعةٌ، وبالجملة فهو متروك الحديث هذا حاصلُ ما ذكره الشُّراح سوى العيني، فإنه قال راداً على الكرمانيِّ فقد أبشعَ في العبارة ولم يكن من دأبِ أهل العلم أن يذكرَ شخصاً عالماً باتفاقهم، فقيهاً، متقدِّماً في زمانه علماً ورئاسةً هذه العبارة الفاحشة، ولكن الدَّاعي له ولأمثالهِ التَّعصب بالباطل.
          قال: وقد روى عنه سفيان بن عُيينة وعبد الرزاق وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشَّيباني ويحيى بن سعيد القطان وآخرون من أكابرِ المحدِّثين قال: وقال الطَّحاوي: نقلاً عن جريرِ بن عبد الحميد أنه قال: ما ظننتُ أني أعيشُ إلى دهرٍ يحدِّث / فيه عن محمَّد بن إسحاق، ويُسْكتُ فيه عن الحسن بن عُمارة، انتهى كلام العيني مفرقاً.
          وأقول: الجرح مقدَّم على التعديلِ، ويجب جرحُ من علم فيه قادحٌ ذبًّا عن حديث رسولِ الله وشريعته فتأمل، وجملة: (جَاءَنَا بِهَذَا الحَدِيثِ): في محلِّ نصب خبر ((كان)) (عَنْهُ): أي: عن شبيب بن غرقدة (قَالَ): أي: الحسن (سَمِعَهُ): أي: الحديث (شَبِيبٌ مِنْ عُرْوَةَ): أي: البارِقي المار (قَالَ): أي: سفيان بن عُيينة (فَأَتَيْتُهُ): أي: فأتيت شبيباً.
          (فَقَالَ شَبِيبٌ إِنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ عُرْوَةَ قَالَ): أي: شبيب: (سَمِعْتُ الحَيَّ): أي: البارقيين (يُحَدِّثُونَهُ): أي: الحديث، وفي بعضِ الأصول: <يخبرونه> (عَنْهُ) أي: عن عروة السَّابق (وَلَكِنْ): أي: قال شبيب: لم أسمع هذا الحديث من عروة، ولكن (سَمِعْتُهُ): أي: عروة.
          (يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم، يَقُولُ: الخَيْرُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِي الخَيْلِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ): يعني: إلى قرب قيامها؛ أي: لتميُّزها على غيرها من الدَّواب بصلاحيتها للكرِّ والفرِّ.
          تنبيه: أراد البخاريُّ بقوله: قال سفيان: كان الحسن....إلخ بيان ضعفِ رواية الحسن بن عُمارة وأن شبيباً لم يسمع الخبر من عروة وإنما سمعَه من الحيِّ، ولم يسمِّهم، فالحديثُ بهذا ضعيف للجهلِ بحالهم.
          قال في ((الفتح)): لكن وجد له متابعٌ عند أحمد وأبي داود والترمذيِّ وابن ماجه من طريق سعد بن زيد عن الزُّبير بن الخرِّيت عن أبي لبيد قال: حدَّثني عروة البَّارقي فذكر الحديث بمعناه؛ أي: وهو ((اللَّهمَّ بارك له في صفقةِ يمينهِ)).
          وقال شيخُ الإسلام تبعاً للكرمانيِّ وغيره: قيل: الحسن بن عُمارة كاذب يكذبُ، فكيف جاز النقل عنه.
          وأُجيب: بمنع أنه كان كاذباً، وبتقدير تسليمهِ فله متابع عند أحمد وأبي داود وغيرهما عن أبي لبيد الصَّدوق، قال: حدَّثني عروةُ البارقي، فذكر الحديث، وقال البرماويُّ تبعاً للكرمانيِّ: قيل: لم يثبت شيءٌ من هذا الحديث بقوله مع احتمال أنه قال ذلك بناء على ظنِّه. انتهى فتأمله.
          واسم أبي لبيد: لِمَازة _بكسر اللام وتخفيف الميم فألف فزاي فهاء تأنيث_ ابن زَبّاز _بفتح الزاي وتشديد الموحدة فألف فزاي أيضاً_ الأزدي.
          (قَالَ): أي: شبيب، بالسَّند السابق (وَقَدْ رَأَيْتُ فِي دَارِهِ): أي: دار عروة السابق (سَبْعِينَ فَرَسًا): لعلَّه أعدَّها للجهاد (قَالَ سُفْيَانُ): أي: ابن عُيينة، بالسَّند المار (يَشْتَرِي): بفتح التحتية؛ أي: عروة الصَّحابي (لَهُ): أي: لرسول الله صلعم (شَاةً).
          وقوله: (كَأَنَّهَا): أي: الشاة التي أمره النَّبي بشرائها له (أُضْحِيَّةٌ): بتخفيف التحتية وقد تشدد؛ أي: يريد التَّضحية بها، الظاهر أنه من قولِ سفيان أدرجَه في الخبر.
          وقال في ((الفتح)): / لم أر في شيءٍ من طرق الحديث أنه أراد أضحية، وزعمَ أبو الحسن بن القطان أن البُخاري لم يرد بسياقِ هذا الحديث إلا حديث الخيلِ دون حديث الشَّاة، وبالغ في الرَّد على من زعم أن البُخاري أخرجَ حديث الشَّاة محتجاً به؛ لأنه ليس على شرطهِ، ولأنه لو أرادَه لذكرَه في البيوع كما أخرجَه فيها أبو داود والترمذيُّ.
          قال في ((الفتح)): وهو كما قال، لكن ليس في ذلك ما يمنع تخريجَه ولا ما يحطُّه عن شرطه؛ لأنَّ العادة تمنعُ تواطؤَ الحيِّ على الكذبِ، لا سيَّما وقد ورد ما يعضُده، ولأن الغرضَ منه أنه يدخل في علامات النُّبوة دعاؤه عليه السلام لعروة، فاستجيبَ له.
          ثم قال في ((الفتح)): وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يطَّرد له في ذلك عادة، فقد يكون الحديث على شرطهِ، ويعارضُه عنده ما هو أولى بالعملِ به. فتأمل.