الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا

          2686- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عُمَرُ) بضم العين (ابْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) بكسر الغين المعجمة أولَه وبالمثلثة آخرَه؛ أي: ابنِ طَلْقٍ _بسكون اللام_ الكوفيُّ، قال: (حَدَّثَنَا أَبِي) أي: حفصٌ المذكورُ، قال: (حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) هو: سليمانُ بنُ مهرانَ.
          قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، وفي بعضِ الأصُول: بالجمع (الشَّعْبِيُّ) بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة، هو: عامرُ بنُ شُراحيلَ (أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ) بضم النون (ابْنَ بَشِيرٍ) بفتح الموحدة (☻، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَثَلُ) بفتح الميم والمثلثة (الْمُدْهِنِ) بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الهاء وبالنون آخرَه، اسمُ فاعلٍ من: أَدهَنَ _بالهمز_؛ أي: المُداهِنُ.
          وقال في ((الفتح)): أي: المُحابي _بالحاء المهملة والموحدة المكسورة_، والمُدهِنُ والمُداهِنُ واحدٌ، والمراد به: مَن يُرائي ويضيِّعُ الحقوقَ، ولا يغيِّرُ المنكَرَ (فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا) أي: في حدودِ الله؛ أي: ومُرتكِبِها.
          قال في ((الفتح)): كذا وقَعَ هنا، وتقدَّمَ في الشَّرِكةِ من وجٍه آخرَ عن الشَّعبيِّ: ((مثَلُ القائمِ على حدودِ الله والواقِعِ فيها)) وهو أصوبُ؛ لأنَّ المدهِنَ والواقِعَ في الحدودِ _أي: مرتكِبَها_ في الحُكمِ واحدٌ، والقائمُ مُقابِلُه، ووقع للإسماعيليِّ في الشرِكة: ((مَثَلُ القائمِ على حدودِ اللهِ والواقعِ فيها)) وهذا يشمَلُ الفِرَقَ الثلاثةَ: النَّاهيَ عن المعصية، والواقعَ فيها، والمُرائي في ذلك، ووقع للإسماعيليِّ أيضاً هنا: ((مثَلُ الواقعِ في حُدودِ الله تعالى / والنَّاهي عنها)) وهو المطابِقُ للمثَلِ المضروب، فإنه لم يقَعْ فيه إلا ذكرُ فرقتَين فقط، لكن إذا كان المُداهِنُ مُشترِكاً في الذمِّ مع الواقعِ صارا بمَنزِلةِ فِرقةٍ واحدةٍ في المثَلِ المضروب، انتهى.
          وحمل ابنُ التِّينِ قولَه: ((الواقعِ فيها)) على القائمِ فيها، واستشهَدَ بقولِه تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] أي: قامَتِ القيامةُ.
          قال في ((الفتح)): ولا يَخفى ما فيه، قال: وكأنَّه غفَلَ عما وقَعَ في الشَّرِكةِ من مُقابَلةِ الواقعِ بالقائم، ورواه التِّرمذيُّ بلفظ: ((مثَلُ القائمِ على حدودِ الله والمُدهِنِ فيها)) وهو مستقيمٌ، انتهى.
          وقال الكِرمانيُّ: فإن قلتَ: قال في الشَّرِكة: ((مثَلُ القائمِ على حدودِ الله)) وقال هاهنا: ((مثَلُ المُدهِنِ)) وهما نقيضان؛ إذ القائمُ: هو الآمِرُ بالمعروف، والمُدهِنُ: هو التَّارِكُ له، فما وجهُه؟
          قلتُ: كلاهما صحيحٌ، فحيثُ قال: ((القائم)) نظَرَ إلى جهة النَّجاة، وحيثُ قال: ((المدهن)) نظرَ إلى جهةِ الهلاك، انتهى.
          واعترضَه في ((الفتح)) فقال: كيفَ يستقيمُ هنا الاقتِصارُ على ذِكرِ المُدهِنِ، وهو التَّاركُ للأمرِ بالمعروفِ؟وعلى ذِكرِ الواقعِ في الحدِّ، وهو العاصي، وكلاهُما هالكٌ؟ فالذي يظهَرُ أنَّ الصوابَ ما تقدَّمَ.
          قال: والحاصلُ أنَّ بعضَ الرُّواةِ ذكَرَ المُدهِنَ والقائمَ، وبعضَهم ذكَرَ الواقعَ والقائمَ، وبعضَهم جمعَ الثلاثةَ، وأما الجمعُ بين المُدهِنِ والواقعِ دون القائم فلا يستقيمُ، انتهى.
          وانتصر العَينيُّ للكِرمانيِّ فقال: لا وجهَ لاعتراضِهِ على الكِرمانيِّ؛ لأن سؤالَه وجوابَه مبنيِّان على ما ذُكرَ في هذا الحديث، وهما المُدهِنُ والقائمُ، لا المُدهِنُ والواقعُ في الحدِّ، انتهى، فتدبَّر.
          وقوله: (مَثَلُ قَوْمٍ) بفتحتين، مرفوعٌ، خبرٌ مثلُ الأول، وجملةُ: (اسْتَهَمُوا) بفتح الفوقية بعد السين المهملة الساكنة، صفةُ ((قومٍ)) أي: اقترعوا وأخَذوا (سَفِينَةً) بفتح السين المهملة، فَعيلةٌ بمعنى: فاعلةٍ؛ لأنَّها تَسفِنُ الماءَ؛ أي: تقشِرُه، وصاحبُها: سَفَّانٌ، قاله في ((المصباح)).
          وقال في ((القاموس)): سفَنَه يسفِنُه: قشَرَه، ومنه: السَّفينةُ؛ لقَشرِها وجهَ الماء، والجمعُ: سَفائنُ، وسفُنٌ، وسَفينٌ، وصانعُها: سفَّانٌ، وحِرفَتُه: السِّفانةُ، انتهى.
          وقال في ((المصباح)): السفينةُ معروفةٌ، والجمع: سَفينٌ _بحذف الهاء_، وسَفائنُ، ويُجمَعُ السَّفينُ على سُفُنٍ _بضمتين_، لكنْ جمعُ السَّفينةِ على: سَفينٍ شاذٌّ؛ لأنَّه الجمعَ الذي يفرَّقُ بينه وبين واحدِه بالهاء بابُه المخلوقاتُ، نحوُ: تمرةٍ وتمْرِ، وأما المصنوعاتُ فمسموعٌ فيها في ألفاظٍ قليلة، ومنهم مَنْ قال: السَّفينُ لغةٌ في الواحد، انتهى.
          وفي قوله: ((استهَموا سفينةً)) المطابَقةُ للترجمة، فإنَّ المعنى: اقتَرَعوا سفينةً مُشترَكةً بينهم بعد تنازُعِهم في المَقامِ بأعلاها أو أسفَلِها، فأخذ كلُّ فِرقةٍ نصيباً منها بالقُرعةِ،بأنْ تكونَ مُشترَكةً بينهم بالإجارةِ أو بالمِلكِ، وإنَّما تقَعُ القُرعةُ بعد التعديل ووقوعِ التَّشاحِّ في أيِّ نصيبٍ يأخُذُه الشريكُ، فتُفعَلُ القُرعةُ لفَصلِ النزاع.
          قال ابنُ التين: وإنَّما يقعُ ذلك في السفينةِ ونحوها إذا نزلوها معاً، أما لو سبق أحدُهم فالسابقُ أحقُّ بمَوضعِه، وهذا _كما في ((الفتح))_ إذا كانت مُسبَلةً، أما / لو كانَتْ مملوكةً لهم، فالقُرعةُ مشروعةٌ مُطلَقاً إذا تنازعوا، فإذاً أخذَ بالقُرعةِ أعلاها جماعةٌ، وأسفلَها آخرون.
          (فَصَارَ) أي: فقعد (بَعْضُهُمْ) أي: بعضُ القوم (فِي أَسْفَلِهَا) أي: السفينةِ (وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاَهَا، فَكَانَ الَّذِي) بالإفراد؛ أي: الفريقُ الذي (في أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ) بضم الميم وتشديد الراء وواو الجماعة، على حدِّ قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] (بِالْمَاءِ) بالمدِّ؛ أي: الذي يستقونَه من خارجِ السَّفينة (على الَّذِينَ) بالجمع، وللأَصيليِّ وأبي ذرٍّ عن الحمَويِّ والمستَمليِّ: <على الذي> (فِي أَعْلاَهَا) ورأيتُ في بعضِ الأصولِ في الأُولى: <فكان الذين> بالجمع، وفي بعضِ الأصُول: بالجَمعِ فيها (فَتَأَذَّوْا) بفتح الذال المعجمة المشددة؛ أي: فتأذَّى الذين في أعلى السَّفينةِ (بِهِ) أي: بمرور الذين في أسفَلِها عليهم حالة الاستِقاءِ، أو بالماء الذي يمُرُّون به.
          (فَأَخَذَ) أي: الفريقُ الذي مرَّ بالماء (فَأْساً) بسكون الهمزة، وقد تُبدَلُ الفاءُ، وهو مذكَّرٌ، ويؤنَّثُ (فَجَعَلَ) أي: آخذُ الفأسِ(يَنْقُرُ) بضم القاف؛ أي: يحفِرُ بالفأسِ(أَسْفَلَ السَّفِينَةِ) أي: ليأخُذَ منه الماءَ لحاجتِه، ولا يحتاجَ للذَّهابِ إلى أعلى السَّفينة (فَأَتَوْهُ) أي: فأتى الذين في أعلى السفينةِ الفريقَ الذي يريدُ النقرَ في أسفلِها.
          (فَقَالُوا: مَا لَكَ؟) أي: تَحفِرُ في أسفلِ السفينة (قَالَ) جوابٌ عن الاستفهام (تَأَذَّيْتُمْ بِي) من الأَذِيَّةِ _بالذال المعجمة_ (وَلاَ بُدَّ) أي: ولا غِنًى (لِي مِنَ الْمَاءِ) أي: للاحتياجِ إليه (فَإِنْ أَخَذُوا) بالبناء للفاعل؛ أي: الأعلَونَ(عَلَى يَدَيْهِ) بالتثنية، ولأبي ذرٍّ: بالإفراد؛ أي: فإن منَعوه من الحَفرِ في أسفلِ السفينة (أَنْجَوْهُ) بقطع الهمزة والجيم المخففة؛ أي: أَنْجى المتأذُّونَ الحافِرَ من الغَرَقِ (وَنَجَّوْا) بفتح الجيم المشددة، وفي بعضِ الأصُول: <وأَنجَوا> بالهمز؛ أي: وسَلِموا (أَنْفُسَهُمْ) أي: فسَلِمَ الجميعُ من الغَرقِ (وَإِنْ تَرَكُوهُ) أي: يحفِرُ (أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ).
          قال في ((الفتح)): وهذا تفسيرٌ للرِّوايةِ الماضية في الشَّرِكةِ حيثُ قال: ((نَجَوا ونَجَوا))؛ أي: كلٌّ من الآخذين والمأخوذين، قال: وهكذا إقامةُ الحدودِ، يحصُلُ بها النَّجاةُ لمَنْ أقامَها وأُقيمَتْ عليه، وإلَّا هلكَ العَاصِي بالمعصيَةِ، والسَّاكتُ بالرِّضا بها، انتهى.
          قال المهلَّبُ وغيرُه: في هذا الحديثِ تعذيبُ العامَّةِ بذَنبِ الخاصَّةِ، وتعقَّبَه في ((الفتح)) فقال: وفيه نظرٌ؛ لأن التعذيبَ المذكورَ إذا وقع في الدُّنيا على مَن لا يستحِقُّه فإنه يكفِّرُ من ذنوبِ مَن وقع به، أو يرفَعُ من درجتِه، قال: وفيه استحقاقُ العقوبةِ بترك الأمرِ بالمعروف، وتبيينُ العالِمِ الحُكمَ بضَرب ِالمثَلِ، ووجوبُ الصبرِ على أذى الجار إذا خُشيَ وقوعُ ما هو أشدُّ ضرراً، وأنه ليس لصاحبِ السُّفلِ أن يُحدِثَ على صاحبِ العُلوِّ ما يضُرُّ به، وأنه إنْ أحدَثَ عليه ضرراً لَزِمَه إصلاحُه، وأنَّ لصاحبِ العُلوِّ منْعَه من الضرر، وفيه جوازُ قِسْمةِ العقار المتفاوتِ بالقُرعةِ وإن كان فيه عُلوٌّ وسُفلٌ، انتهى.