الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب شهادة الإماء والعبيد

          ░13▒ (باب شَهَادَةِ الإِمَاءِ) بالمد (وَالْعَبِيدِ) أي: في حال رِقِّهما، ولم يبتَّ الحكمَ للخلافِ فيه، ومذهبُ الجمهورِ _كما في ((الفتح)) وغيره_: لا يقبلُ شهادةُ العبدِ مطلقاً، ومنهم الأئمةُ الثلاثة، وأجاز شهادتَه مطلقاً جماعةٌ، منهم أحمدُ، حتى في قوَدٍ وحدٍّ نصاً، وعنه: لا تقبَلُ فيهما.
          قال المرداويُّ في ((تنقيحه)): وهي أشهرُ، ونقل / المصنِّفُ بعضَ ذلك بقوله:
          (وَقَالَ أَنَسٌ) فيما وصله ابنُ أبي شيبةَ من روايةِ المختارِ بنِ فلفُلٍ (شَهَادَةُ الْعَبْدِ) أي: الرَّقيقِ، ولعلَّه أراد ما يشملُ الأنثى (جَائِزَةٌ) بالجيم؛ أي: مقبولةٌ (إِذَا كَانَ عَدْلاً) بخلافِ غيرِ العدْلٍ، فلا تقبَلُ اتِّفاقاً.
          قال ابنُ الملقِّن: وفي الأشرافِ ما علمتُ أحداً ردَّ شهادةَ العبد.
          (وَأَجَازَهُ) أي: ما ذكرَ من شهادةِ العبد، وهو أولى من قولِ القسطلانيِّ في حكمِ شهادةِ العبدِ، فتدبَّر.
          (شُرَيْحٌ) بضم الشين المعجمة وبحاء مهملة آخرَه (وَزُرَارَةُ) بضم الزاي أولَه فراءين بينهما ألف (ابْنُ أبي أَوْفَى) بفتح الفاء.
          قال في ((الفتح)): أما قولُ شريحٍ؛ فوصله ابنُ أبي شيبةِ من رواية الشعبيِّ: أنَّ شُريحاً أجازَ شهادةَ العبيد، وروى سعيدُ بنُ منصورٍ من روايةِ عمارٍ الدهنيِّ قال: سمعتُ شُريحاً أجاز شهادةَ عبدٍ في الشيءِ اليسير، وروَينا في ((جامعِ)) سفيانَ بنِ عيينةَ عن هشامٍ، عن ابنِ سيرينَ: كان شُريحٌ يجيزُ شهادةَ العبدِ في الشيء اليسيرِ إذا كان مَرضيًّا.
          وروى ابنُ أبي شيبةَ أيضاً عن الشعبيِّ قال: كان شُريحٌ لا يجيزُ شهادةَ العبد، فقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: لكنَّا نجيزُها، فكان شريحٌ بعد ذلك يجيزُها إلا لسيِّده، قال: وأمَّا قولُ زُرارةَ بنِ أبي أوفى وهو قاضي البصرة؛ فلم أقفْ على سنَدِه إليه، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: وأمَّا أثرُ زُرارة فجيِّدٌ، وقد احتجَّ به ابنُ حزمٍ في ((مُحلَّاه)).
          (وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ) أي: محمَّدٌ، مما وصلَه ابنُ الإمامِ أحمدَ في ((المسائل)) بمعناه (شَهَادَتُهُ) يعني: العبدِ (جَائِزَةٌ، إِلاَّ الْعَبْدَ لِسَيِّدِهِ) أي: فلا تجوزُ شهادتُه؛ لأنه يجرُّ له نفعاً.
          (وَأَجَازَهُ) أي: ما ذَكرَ من الشهادة (الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (وَإِبْرَاهِيمُ) أي: النخعيُّ (فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ) بمثناة فوقية وفاء مكسورة فهاء؛ أي: الحقيرِ، وأثَرَهما وصَلَه ابنُ أبي شيبةَ عنه بلفظ: كانوا يُجيزونها في الشَّيءِ الخفيف.
          (وَقَالَ شُرَيْحٌ) أي: القاضي (كُلُّكُمْ بَنُو عَبِيدٍ) جمعُ: عبدٍ (وَإِمَاءٍ) بالمدِّ، جمعُ: أمَةٍ، ولابنِ السَّكَن: كلُّكم عبيدٌ وإماءٌ، بإسقاط: بنو، وهذا قاله شُريحٌ لمَّا شهدَ عنده عبدٌ وأجاز شهادتَه، فقيل له: إنه عبدٌ، وقد وصله ابنُ أبي شيبةَ من طريق عمَّارٍ الدُّهنيِّ قال: سمعتُ شُريحاً شَهِدَ عنده عبدٌ فأجازَ شهادتَه، فقيل له: إنه عبدٌ، فقال: كلُّنا عبيدٌ، وأمُّنا حوَّاءُ، وتقدَّمَ أولَ الباب بيانُ مذاهبُ الأربعة.
          وقال العينيُّ تبعاً لابن الملقِّن: وللعلماءِ في شهادةِ العبدِ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: جوازُها كالحُرِّ، وُروي عن عليٍّ ☺ كقول أنسٍ وشُريحٍ، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ، وثانيها: جوازُها في الشيءِ التافِهِ، رُوي عن الشعبيِّ كقولِ الحسنِ والنخعيِّ، وثالثُها: لا يجوزُ في شيءٍ أصلاً، رُوي عن عمرَ وابنِ عباسٍ، وهو قولُ عطاء ومكحولٍ، وإليه ذهب الثوريُّ والأوزاعيُّ ومالكٌ وأبو حنيفة والشافعيُّ.
          فإن قلتَ: كلُّ من جازَ قبولُ خبَرِه جاز قبولُ شهادته كالحُرِّ، قلتُ: لا نسلِّمُ؛ فإنَّ الخبرَ قد سُومِحَ فيه ما لم يُسامَحْ في الشهادة؛ لأنَّ الخبرَ يقبَلُ من الأمةِ منفردةً والعبدِ منفرِداً، ولا تُقبلُ شهادتُهما منفردَين، والعبدُ ناقصٌ عن رتبةِ الحرِّ في أحكامٍ، فكذلك في الشَّهادة.
          ومذهبُ ابنِ حزمٍ: الجوازُ؛ فإنَّ شهادةَ العبدِ والأمةِ مقبولةٌ في كلِّ شيءٍ، لسيِّده أو لغيرِه، كشهادةِ الحُرِّ والحرَّةِ، ولا فرقَ.