الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب شهادة الأعمى

          ░11▒ (بابُ شَهَادَةِ الأَعْمَى) أي: بابُ بيانِ حكمِ شهادتِه قَبولاً وردَّاً (وَأَمْرِهِ) بالجر فيه وفي بقيةِ المعطوفات؛ أي: وحالِه في تصرُّفاتِه، وضبطوه في بعضِ الأصُول المعتمَدةِ بالرفع، عطفاً على ((بابُ)) أو مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ؛ أي: ((وأمرُه...)) إلخ، مما يتعلَّقُ بشهادةِ الأعمى.
          (وَنِكَاحِهِ) أي: وتزوُجِّه لامرأةٍ (وَإِنْكَاحِهِ) أي: وتزويجها لغيرِه بأن يكون وليًّا أو وكيلاً (وَمُبَايَعَتِهِ) أي: وبيعِه وشرائه (وَقَبُولِهِ فِي التَّأْذِينِ) أي: وفي الأذانِ للصلاة (وَغَيْرِهِ) أي: وغيرِ التأذين، كإقامتِه للصلاة وإمامتِه فيها.
          (وَمَا يُعْرَفُ بِالأَصْوَاتِ) أي: عند تحقُّقِ ذلك، أما عند الاشتباه؛ فلا تجوزُ الشهادةُ عليها اتفاقاً، قال ابنُ القصَّار: الصَّوتُ في الشرع أُقيمَ مقامَ الشهادةِ، ألَا ترى أنه إذا سمعَ الأعمى صوتَ امرأتِه فإنه يجوزُ أن يطأَها، والإقدامُ على استباحةِ الفُروجِ أعظمُ من الشهادة، وقال في ((مختصر خليل)): وإنْ أعمى في قولٍ، وأصمَّ في فعلٍ؛ يعني: فلا يُشترطُ في الشاهدِ عندهم أن يكون سميعاً بصيراً.
          وقد ذكر المصنِّفُ في هذه الترجمةِ أشياءَ متعلِّقةً بالأعمى، لكن الغرَضُ منها إجازةُ شهادته، ولذا قال في ((الفتح)): مالَ المصنِّفُ إلى إجازةِ شهادةِ الأعمى، فأشار إلى الاستِدلالِ لذلك بما ذكَرَه من جَوازِ نِكاحِه ومبايعتِه وقَبولِ تأذينِه، قال: وهو قولُ مالكٍ واللَّيث، سواءٌ علمَ ذلك قبلَ العمى أو بعدَه، وفصَّلَ الجمهورُ؛ فأجازوا ما تحمَّلَه قبلَ العمى لا بعدَه، وكذا ما يتنزَّلُ فيه منزلةَ المبصرِ؛ كأنْ يُشهِدَه شخصٌ بشيءٍ، ويتعلَّقَ هو به إلى أن يشهَدَ هو به عليه.
          وعن الحكَم: يجوزُ في الشيءِ اليسيرِ دون الكثير، وقال أبو حنيفةَ ومحمدٌ: لا تجوزُ شهادتُه بحالٍ، إلا فيما طريقُه الاستفاضةُ، وليس في جميع ما استدلَّ به المصنِّفُ دفعٌ للمذهبِ المفصِّل؛ إذ لا مانعَ من حَملِ المطلقِ على المقيَّد، انتهى.
          وأجاز الشافعيَّةُ شهادةَ الأعمى في أربعِ مواضعَ: في ترجمتِه الكلامَ للقاضي، ومما يثبُتُ بالاستفاضةِ، كالموتِ والنَّسبِ إنْ كان المشهودُ له معروفَ الاسمِ والنسبِ، وفي الصورتَين المذكورتَين في ((الفتح)).
          (وَأَجَازَ شَهَادَتَهُ) أي: الأعمى (القَاسِمُ) وفي بعض النُّسخ: <قاسمٌ> بحذفِ ((الـ)) التي للَّمحِ، وهو: ابنُ محمد بنِ أبي بكرٍ الصدِّيقِ ♥، أحدُ فقهاءِ المدينةِ السَّبعة المشهورين.
          وقال في ((الفتح)): أظنُّه أرادَ ابن محمَّدِ بنِ أبي بكرٍ، فقد روى سعيدُ بنُ منصورٍ بسندِه إلى الحكمِ بنِ عُتيبةَ _مصغَّراً_ أنه سألَ القاسمَ بن محمَّد عن شهادةِ الأعمى، فقال: جائزةٌ.
          (وَالْحَسَنُ) أي: البصريُّ (وَابْنُ سِيرِينَ) أي: محمَّدٌ، مما وصله ابنُ أبي شيبةَ عنهما، قالا: شهادةُ الأعمى جائزةٌ (وَالزُّهْرِيُّ) أي: محمدُ بنُ مسلمٍ، مما وصله ابنُ أبي شيبةَ عنه بلفظ: كان يُجيزُ شهادةَ الأعمى (وَعَطَاءٌ) بالمد؛ أي: ابنُ أبي رباحٍ، مما وصله الأثرَمُ عنه، قال: تجوزُ شهادةُ الأعمى.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) أي: عامرُ بنُ شراحيلَ (تَجُوزُ شَهَادَتُهُ) أي: الأعمى (إِذَا كَانَ عَاقِلاً) قال في ((الفتح)): وصلَه ابنُ أبي شيبةَ عنه بمعناه، وليس المرادُ بذلك الاحترازُ عن المجنون؛ لأنَّ ذلك أمرٌ لا بدَّ من الاحتراز، عنه سواءٌ كان أعمًى أو بصيراً، وإنَّما مرادُه أن يكون فطناً مُدرِكاً للأمورِ الدقيقة بالقرائنِ، / ولا شَكَّ في تفاوُتِ الأشخاصِ في ذلك.
          (وَقَالَ الْحَكَمُ) بفتحتين؛ أي: ابنُ عيينةَ مما وصله ابنُ أبي شيبةَ أيضاً (رُبَّ شَيْءٍ تَجُوزُ) بفتح التاء أوله مبنياً للفاعل على ما في نسخٍ؛ أي: تجوزُ شهادةُ الأعمى (فِيهِ) أي: في بعضِ الأشياء، وقال الكرمانيُّ: <تُجُوِّزَ فيه> بلفظ المجهول؛ أي: خُفِّفَ فيه وتكلِّمَ بالمجاز، وغرضُه أنه قد يُتسامحُ للأعمى بشهادتِهِ في بعضِ الأشياء التي تليقُ بالمسامحة في التخفيف، انتهى.
          (وَقَالَ الزُّهْرِيُّ) أي: محمدُ بنُ مسلمٍ ممَّا وصله الكرابيسيُّ في أدبِ القضاء (أَرَأَيْتَ) بفتح التاء (ابنَ عبَّاسٍ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةٍ أَكُنْتَ تَرُدُّهُ) أي: مع كونِه كانَ أعمى (وَكَانَ ابنُ عبَّاسٍ) ☻ مما وصله عبدُ الرزاق بمعناه (يَبْعَثُ رَجُلاً) لم يُسمَّ (إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ) أي: يفحصُ عن غروبِ الشمسِ للإفطار، فإذا أخبَرَه أنها غربَتْ (أَفْطَرَ) أي: من صومِه.
          (وَيَسْأَلُ عَنِ الْفَجْرِ، فَإِذَا قِيلَ) زاد في روايةِ غيرِ أبي ذرٍّ (لَهُ طَلَعَ) أي: الفجرُ الصادقُ (صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أي: سُنَّة الفجر، ولا يرى الشَّخصَ المخبرَ له، وإنَّما يسمَعُ صوتَه.
          (وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) ضدُّ: اليمين، هو: أبو أيُّوبَ (اسْتَأْذَنْتُ) بضم الفوقية؛ أي: في الدُّخولِ (عَلَى عَائِشَةَ، فَعَرَفَتْ صَوْتِي، قَالَتْ) ولأبي ذرٍّ: <فقالت> (سُلَيْمَانُ) بحذف حرف النداء (ادْخُلْ؛ فَإِنَّكَ مَمْلُوكٌ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ شَيْءٌ) أي: من مالِ الكتابةِ، وكانَ مُكاتَباً لأمِّ المؤمنينَ مَيمونةَ.
          قال في ((الفتح)): وفيه دليلٌ على أنَّ عائشةَ كانت لا ترى الاحتجابَ من العبد، سواءٌ كان في مِلكها أو ملكِ غيرِها، وأما من قال: يحتمِلُ أنه كانَ مكاتَبَ عائشة، فمُعارِضٌ للصَّحيحِ من الأخبار بمَحْضِ الاحتمال، وهو مردودٌ، وأبعدَ من قال: يحتملُ قولُه: ((على عائشةَ)) بمعنى: من عائشةَ؛ أي: استأذنتُ على عائشة في الدُّخول على ميمونةَ، انتهى.
          وأقول: قد يقالُ: لا دليلَ فيه على أنَّها كانت لا ترى الحجابَ من العبدِ ولو لغَيرِها؛ لاحتمالِ أنَّ إذنَها له في الدُّخولِ لمنزِلِها مع الاحتجابِ عنه بحائلٍ، لكن يُنافيه تعليلُها للدُّخولِ بقولِها: ((فإنك مملوكٌ ما بقي عليك شيءٌ)) إلَّا أن يُجابَ على بُعدٍ بأنَّ المملوكيَّةَ تقتضي عدمَ الاحتشامِ من المتَّصفِ بها، فلعلَّ جوابَ الكرمانيِّ الذي استبعَدَه من أنَّ ((على)) بمعنى: من، أولى؛ ليكونَ جارياً على القواعدِ الشرعيةِ، لا على القواعدِ النَّحوية، فتأمَّله حقَّ التأمُّل.
          (وَأَجَازَ سَمُرَةُ) بفتح السين المهملة وضم الميم (ابْنُ جُنْدُبٍ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مُنْتَقِبَةٍ) بسكون النون وفتح المثناة الفوقية بعدها قاف مكسورة، من الانتِقابِ، ولأبي ذرٍّ: <متنقِّبةٍ> بتقديم المثناة المفتوحة على النون وتشديد القاف، من التَّنقيبِ، وهي التي على وَجهِها نِقابٌ، قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: لم أَعرِفِ اسمَ هذه المرأة.