الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود

          ░20▒ (بابٌ) بالتنوين (الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) أي: حيثُ لم يكنْ مع المدَّعي بينةٌ ((اليمينُ)) مبتدأٌ، وخبرُه: ((على المدعَى عليه)) بفتح العين؛ أي: لا على المدَّعي _بكسرها_؛ لأنَّ عليه البينةَ ما لم يرُدَّ المدَّعى عليه اليمينَ على المدَّعي.
          وقوله: (فِي الأَمْوَالِ / وَالْحُدُودِ) خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: وذلك، أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالٍ من الدَّعوى المدلولِ عليها بالوصف، أو ظرفٌ له لغوٌ، فافهم. وتستلزِمْ هذه التَّرجمةُ _كما في ((الفتح))_ شيئين؛ أحدُهما: أن لا تجبُ يمينُ الاستظهار، والثاني: أنه لا يصحُّ القضاءُ بشاهدٍ واحدٍ ويمين المدَّعي.
          واستشهاد المصنِّف بقصة ابنِ شُبرُمةَ يشيرُ إلى أنه أرادَ الثاني، قال: وقولُه: ((في الأموال والحدود)) يشيرُ بذلك إلى الردِّ على الكوفيِّين في تخصيصهمُ اليمينَ على المدَّعى عليه بالأموالِ دون الحدود.
          وذهب الشافعيُّ والجمهورُ إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنِّكاح ونحوِ ذلك، واستثنى مالكٌ النِّكاحَ والطلاقَ والعِتاقَ والفديةَ، فقال: لا يجبُ في شيءٍ منها اليمينُ حتى يُقيمَ المدَّعي البيِّنةَ ولو شاهداً واحداً، انتهى ما في ((الفتح))، فليُتأمَّل.
          وقال العينيُّ: في يمين الاستظهار خلافٌ للعلماء، وهو أنَّ المدَّعيَ إذا أثبت ما يدَّعيه ببينةٍ للحاكم أن يستحلِفَه أنَّ بينته شهدَتْ له بحقٍّ.
          وإليه ذهب شريحٌ وإبراهيمُ النخعيُّ والأوزاعيُّ والحسن بنُ حيٍّ، وقد روى ابنُ أبي ليلى عن الحكمِ عن الحسن: أنَّ عليًّا ☺ استحلفَ عبدَ الله بنَ الحرِّ مع بينته، وذهب مالكٌ والكوفيُّونَ والشافعيُّ وأحمدُ إلى أنه لا يمينَ عليه.
          وقال إسحاقُ: إذا استرابَ الحاكمُ أوجبَ ذلك، وذكرَ دليلَ ذلك، ثم ذكرَ اختِلافَ العلماءِ في القضاءِ بشاهدٍ واحدٍ ويمينِ المدَّعي، قال: فذهَبَ الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ إلى القولِ بقَبولِ ذلك، وعمومِه في الأموالِ والحدودِ والنِّكاحِ ونحوِ ذلك.
          ثم نقل عن ((التوضيح)) أنه قال: قام الإجماعُ على استحلافِ المدَّعى عليه في الأموال، واختلَفوا في الحدودِ والطَّلاقِ والنكاحِ والعتقِ؛ فذهَبَ الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ إلى القولِ بعمومِ الحلفِ في الأموالِ والحدودِ، وخصَّ الكوفيُّونَ الحلفَ بالأموالِ دونَ الحدودِ، وأطال في ذلك الكلامَ كـ ((الفتح)) و((العمدة)).
          والحاصلُ أنَّه إذا ادَّعى شخصٌ على آخرَ حقًّا، ولم يكُنْ معه بيِّنةٌ؛ فإنه يحلِفُ المدَّعى عليه، سواءٌ كان الحقُّ مالاً أو غيرَه عند الجمهور.
          وخصَّ الحنفيَّةُ الحَلِفَ بما إذا كان المدَّعى به مالاً، واستثنى مالكٌ ما تقدم، فقال: لا يحلفُ فيها المدَّعى عليه، وأطالَ في بيانِ ذلك تَبعاً لابنِ الملقِّن، فراجِعْهما.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم) فيما وصله المصنِّفُ آخرَ الباب من حديثِ الأشعث.
          (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) والغرضُ منه _كما في ((الفتح))_ أنه أطلقَ اليمينَ في جانبِ المدَّعى عليه، ولم يقيِّدْه بشيءٍ دون شيءٍ، وارتفع ((شاهداك)) على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: المثبتُ لك، أو الحجَّةُ، أو ما ثبتَ لك، والمعنى: ما يثبتُ لك شهادةُ شاهدَيك، أو لك إقامةُ شاهدَيك، فحُذفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامَه، فأُعربَ إعرابَه، فارتفعَ وحذفَ الخبرُ والمبتدأُ للعلم به.
          ونقل الزركشيُّ وتَبعوه عن القاضي عياضٍ أنه قال: ارتفعَ ((شاهداك)) بفعلٍ مضمَرٍ، قال سيبويهِ: معناه: ما قال شاهداك.
          قال في ((المصابيح)): هكذا حكَوا عنه، وفيه نظرٌ، وسبق أنَّ تقديرَه: عليك شاهداك، أو عليه يمينُه، ويدُلُّ عليه: ((البينةُ على مَنِ ادَّعى، واليمينُ على مَنْ أنكرَ)) انتهى. وقال البرماويُّ: أو فاعلٌ محذوفٌ، قال سيبوَيهِ: ما يُثبِتُ لك شاهداك؛ أي: شهادةُ شاهدَيك، انتهى.
          وأقول: يحتمل هذا التقديرُ أن يكونَ ((شاهداك)) خبراً لمحذوفٍ، فتدبَّرْ. وتقدم في الرَّهنِ بلفظ: ((شهودُك)) وأنه رُوي بالرفعِ والنصبِ، وتقدَّم توجيهُه.
          ░2667م ▒ (وَقَالَ قُتَيْبَةُ) أي: ابنُ سعيدٍ، وفي بعض النُّسخ كما نُقلَ عن خطِّ القُطبِ الحلبيِّ: <حدثنا قتيبةُ> انتهى.
          وعليه: فيكون حدَّثَه بهذا الحديث من غيرِ واسطةٍ، وهو ممكنٌ؛ لأنه من مشايخِه، لكنْ قد يَروي عنه بواسطةِ رجلٍ كما في ((المعجم)) فيحتمِلُ هذا هنا، ويكونُ معلَّقاً، ويحتملُ أن يكونَ سمعَه منه لا في مَعرِضِ تحديثِه إياه، فلذا قال: ((وقال قُتيبةُ)) ثم رأيتُه في ((الفتح)) قال: وردَّ ذلك مُغلطايَ بأنَّ البخاريَّ لم يحتجَّ بابنِ شبرُمةَ، قال: وهو / عجيبٌ.
          فإنه أخرجَ له في الشواهدِ كما يأتي في الأدب، وهذا منها؛ فإنه حكايةٌ واقعةٌ اتفقَتْ له مع ابنِ عيينةَ، ليس فيها حديثٌ مرفوعٌ يحتجُّ به، انتهى، فتدبَّر.
          وعبارةُ العينيِّ: هكذا في كثيرٍ من النُّسخ: ((قال قُتيبةُ)) مُعلَّقاً، وفي بعضِها: <حدثنا قُتَيبةُ> وكذا نُقلَ عن الشيخِ قُطبِ الدينِ الحلبيِّ الشارح، وقال صاحبُ ((التلويح)): وكأنَّ الأولَ أظهرُ؛ لأنَّ البخاريَّ لم يحتجَّ في ((صحيحه)) بابنِ شُبرُمةَ، انتهى.
          قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أي: ابنُ عُيينةَ (عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ) بضم الشين المعجمة والراء بينهما موحدة ساكنة، وابنُ شُبرُمةَ: هو عبدُ الله بنُ شُبرُمةَ بنِ الطُّفيلِ الضبيُّ الكوفيُّ، قاضي الكوفة للمنصور وفقيهُها.
          وقال العينيُّ: عَدُّوه في التابعين، وكان عفيفاً عاقلاً فقيهاً يشبهُ النُّساكَ، ثقةٌ شاعرٌ حسنُ الخُلقِ، استشهد به البخاريُّ في ((الصحيح))، وروى له في ((الأدب))، وروى له مسلمٌ وأبو داودَ وابنُ ماجه، مات سنةَ أربعٍ وأربعين ومائةٍ، وروى عن أبي حنيفةَ حديثاً واحداً.
          قال: (كَلَّمَنِي أَبُو الزِّنَادِ) بكسر الزاي وتخفيف النون، هو: عبدُ الله بنُ ذكوانَ القرشيُّ، قاضي المدينة، قال العجليُّ: مدنيٌّ تابعيٌّ ثقةٌ، سمعَ من أنسِ بنِ مالكٍ، مات سنةَ ثلاثين ومائة.
          (فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي) بكسر العين؛ أي: في شأنِهما والقولِ بجوازِهما وحدَهما، وكان مذهبُ أبي الزِّنادِ القضاءَ بذلك كأهلِ بلدِه وأهل الحجاز؛ لِما رواه مسلمٌ عن ابنِ عبَّاسٍ: ((أنه عليه السَّلامُ قضى بشاهدٍ ويمين)) ورواه أصحابُ السُّننِ عن أبي هريرةَ، ورواه الترمذيُّ وابنُ ماجه وأبو عوانةَ عن جابرٍ، وصحَّحَه ابنُ خزيمةَ.
          وأما مذهبُ ابنُ شبرُمةَ كأهلِ بلدِه، فلا يكتفي بالشاهد واليمين، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ والكوفيين، فاحتجَّ على أبي الزِّنادِ بالآية.
          وقوله: (فَقُلْتُ) من كلام ابنِ شبرُمةَ لأبي الزِّناد (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا}) أي: الشاهدان ({رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}) أي: العُدولِ ({أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]) وقوله: (قُلْتُ إِذَا كَانَ يُكْتَفَى...) إلخ، من تتمَّةِ كلامِ ابنِ شبرُمةَ.
          وقوله: (بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي) متعلِّقٌ بـ ((يُكتَفى)) (فَمَا تَحْتَاجُ أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، مَا كَانَ يَصْنَعُ بِذِكْرِ هَذِهِ الأُخْرَى) بالموحدة وكسر الذال المعجمة مصدَراً، وفي بعض النُّسَخ: <تَذَكُّر> بفوقية ومعجمة مفتوحتين وضم الكاف مشددة، وفي بعضٍ آخرَ: <تُذْكِرَ> بضم الفوقية وسكون الذال وكسر الكاف.
          تنبيه: قال الكرمانيُّ: ((إذا كان)) شَرطٌ، و((فما تحتاجُ)) جزاءٌ، و((ما)) نافيةٌ، بخلاف ((ما كان)) فإنها استفهاميَّةٌ، والفعلانِ بلفظِ المجهول؛ أي: إذا جازَ الكفايةُ على شاهدٍ ويمينٍ؛ فلا احتياجَ إلى تذكيرِ إحداهما الأخرى؛ إذ اليمينُ تقومُ مقامَها، فما فائدةُ ذكرِ التَّذكيرِ في القرآن؟
          أقول: فائدتُه: تتميمُ شاهدٍ؛ إذ المرأةُ الواحدةُ لا اعتبارَ لها؛ لأنَّ المرأتَين كرجلٍ واحدٍ، ولهذا قال بعضُهم: المراد من (({تذكِّرَ})) أن تجعلَه ذكَراً؛ أي: كالذكَرِ، والمقصودُ منه أنه لا يحتاجُ إلى اليمين، ثم لا يلزَمُ من بيان هذا النَّوعِ من البيِّنةِ فيه أن لا يكونَ ثمةَ نوعٌ آخرُ منها، غايةُ ما في الباب عدمُ التعرُّضِ له، لا التعرُّضُ لعدمه، انتهى.
          وأجاب الشافعيُّ عن الآيةِ _كما في ((المعرفة)) للبيهقيِّ_ بأنَّ اليمينَ مع الشاهد لا يُخالِفُ من ظاهرِ القرآن شيئاً؛ لأنا نحكمُ بشاهدَين وشاهدٍ وامرأتَين، / ولا يمينَ، فإذا كان شاهدٌ حكَمْنا بشاهدٍ ويمينٍ بالسُّنة، وليس هذا مما يخالفُ ظاهرَ القرآن؛ لأنه لم يمنعْ أن يجوَّزَ أقلُّ مما نصَّ عليه في كتابِه تعالى، ورسولُه صلعم أعلمُ بمعنى ما أرادَ تعالى، وقد أمَرَنا تعالى أن نأخذَ ما أتانا به، وننتهي عما نهانا عنه، انتهى.
          وزاد في ((الفتح)): يعني: والمخالِفُ لذلك لا يقولُ بالمفهومِ فضلاً عن مفهومِ العدد، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): إنَّما يتمُّ لابنِ شبرُمةَ الحجَّةُ بما قاله على أصلٍ مختلَفٍ فيه بين الفريقَين؛ وهو أنَّ الخبرَ إذا وردَ متضمِّناً لزيادةٍ على ما في القرآنِ هل يكونُ نسخاً؟ والسُّنةُ لا تنسخُ القرآنَ، أو لا يكونُ نسخاً، بل زيادةً مستقلَّةً بحُكمٍ مستقلٍّ، إذا ثبتَ سنَدُه وجبَ القولُ به، والأولُ مذهبُ الكوفيين، والثاني مذهبُ الحجازيِّين، ومع قطعِ النظرِ عن ذلك لا تنهضُ حجَّةُ ابنِ شبرُمةَ؛ لأنه يصيرُ مُعارَضةً للنصِّ بالرأي، وهو غيرُ معتبرٍ به.
          وقد أجاب عنه الإسماعيليُّ فقال: الحاجةُ إلى إذكار إحداهما الأخرى إنَّما هو إذا شَهِدَتا، وإن لم تشهَدا قامت مقامَهما يمينُ الطالب ببيانِ السُّنةِ الثابتة، انتهى.
          واليمينُ ممَّنْ هي عليه لو انفردَتْ لحلَّتْ محلَّ البينةِ في الأداء والإبراء، فكذلك حلَّتِ اليمينُ هنا محلَّ المرأتين في الاستحقاق بها مُضافةً للشاهدِ الواحدِ، قال: ولو لزِمَ إسقاطُ القولِ بالشاهدِ واليمينِ؛ لأنه ليس في القرآنِ للزِمَ إسقاطُ الشاهدِ والمرأتين؛ لأنهما ليستا في السُّنةِ؛ لأنه صلعم قال: ((شاهداك أو يمينُه))، انتهى.
          وحاصِلُه أنه لا يلزَمُ من التنصيصِ على الشيءِ نفيُه عما عداه، لكنْ مقتضى ما بحثه أنه لا يقضي باليمينِ مع الشاهدِ الواحدِ إلا عند فقدِ الشاهدينِ أو ما قام مَقامَهما من الشاهدِ والمرأتين، وهو وجهٌ للشافعية، وصحَّحَه الحنابلةُ.
          ويؤيِّدُه ما روى الدَّارقطنيُّ من طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جدِه مرفوعاً: ((قضى اللهُ ورسولُه في الحقِّ بشاهدَين، فإنْ جاء بشاهدَين أخذَ حقَّه، وإن جاء بشاهدٍ واحدٍ حلفَ مع شاهدِه)).
          وأجاب بعضُ الحنفيةِ بأنَّ الزيادةَ على القرآنِ نسخٌ، وأخبارُ الآحادِ لا تنسخُ المتواترَ، ولا تقبلُ الزيادةُ من الأحاديثِ إلا إن كان الخبرُ بها مشهوراً.
          وأُجيبَ بأنَّ النسخَّ رفعُ الحُكمِ، ولا رفعَ هنا، وأيضاً فالناسخُ والمنسوخُ لا بدَّ أن يتوارَدا على محلٍّ واحدٍ، وهذا غيرُ متحقِّقٍ في الزيادةِ على النصِّ.
          وغايةُ ما فيه أنَّ تسميةَ الزيادةِ كالتخصيصِ نَسْخاً اصطلاحٌ، فلا يلزَمُ منه نسخُ الكتابِ بالسُّنةِ، لكن تخصيصُ الكتاب بالسُّنةِ جائزٌ، وكذلك الزيادةُ عليه، كما في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] وأجمَعوا على تحريمِ نكاحِ العمَّةِ مع بنتِ أخيها، وسنَدُ الإجماعِ في ذلك السنَّةُ الثابتةُ، وكذلك قطعُ رجلِ السارقِ في المرة الثانية، وأمثلةُ ذلك كثيرةٌ.
          وقد أخذ من ردَّ الحُكمَ بالشاهد واليمينِ لكونِه زيادةً على القرآن بأحاديثَ كثيرةٍ في أحكامٍ كثيرةٍ كلُّها زائدةٌ على ما في القرآن، كالوضوء بالنَّبيذِ، والوضوءِ من القهقة، ومن القيءِ، والمضمضةِ والاستنشاقِ في الغُسلِ دون الوضوء، / واستِبراءِ المسبيَّةِ، وتركِ قطعِ من سرَقَ ما يُسرعُ إليه الفسادُ، وشهادةِ المرأة الواحدةِ في الولادةِ، ولا قوَدَ إلا بالسيفِ، ولا جُمعةَ إلا في مصرٍ جامعٍ، ولا تقطَعُ الأيدي في الغزْوِ، ولا يرِثُ الكافرُ المسلم، ولا يؤكلُ الطافي من السَّمكِ، ويحرمُ كلُّ ذي نابٍ من السِّباعِ ومخلبٍ من الطيرِ، ولا يقتَلُ الوالدُ بالولدِ، ولا يرثُ القاتلُ من القتيل، وغيرِ ذلك من الأمثلة التي تتضمَّنُ الزيادةَ على عمومِ الكتاب.
          وأجابوا بأنَّها أحاديثُ شهيرةٌ، فوجب العملُ بها لشُهرتِها، فيُقال لهم: وحديثُ القضاء بالشاهدِ واليمين جاءَ من طُرقٍ كثيرةٍ مشهورة، بل ثبَتَ من طُرقٍ صحيحةٍ متعدِّدةٍ، فمنها ما أخرجَه مسلمٌ من حديثِ ابنِ عباسٍ: ((أنَّ رسولَ الله صلعم قضى بيمينٍ وشاهدٍ)).
          قال في ((التمييز)): وهو حديثٌ صحيحٌ لا يُرتابُ في صحَّته، وقال ابنُ عبدِ البرِّ: لا مطعَنَ لأحدٍ في صحَّتِه ولا في إسناده.
          ومنها حديثُ أبي هريرةَ: ((أنَّ النبيَّ صلعم قضَى باليمينِ مع الشَّاهد)) رواه أصحابُ ((السُّنَن))، ورجالُه ثقاتٌ مدنيُّون.
          قال: وفي الباب عن نحو عشرينَ صحابياً، وفيها الحسانُ والضِّعافُ، وبدونِ ذلك تثبتُ الشُّهرةُ، ودعوى نسخه مردودةٌ؛ لأنَّ النسخَ لا يثبُتُ بالاحتمالِ، وأطالَ في ذلك كـ ((التوضيح)) و((العمدة)) لا سيَّما الثالثُ، فراجِعْها.
          وقال في ((الانتقاض)): أطالَ العينيُّ في التعصُّبِ بلا طائلٍ تحتَه، فلم التَّشاغُلُ بكتابته؟ لأنَّ حاصلَها أنَّ الشهيرةَ في اصطلاحِهم أن تشتهَرَ عند الجميعِ، قال: وهذا الحديثُ اشتُهرَ عندهم، ولم يشتهَرْ عنده.
          قلت: وهذا الجوابُ كافٍ في انقطاع حجَّتِه، انتهى.
          ومطابقةُ الحديثِ المعلَّقِ للترجمةِ تؤخذُ من المفهوم، وكذا أثرُ ابنِ شبرُمةَ لمن تأمَّلَ، فافهم.