الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في البينة على المدعي

          ░1▒ (باب مَا جَاءَ) أي: وردَ (فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي) بكسر العين، وفي بعضِ الأصول: <بابُ ما جاء أنَّ البيِّنةَ على المدَّعي>.
          (لقوله) زاد أبو ذرٍّ: <تعالى> وله أيضاً: <╡> بدَلَه؛ أي: في أواخرِ سورةِ البقرة ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}) / قال في ((الفتح)): كذا لابنِ شَبُّويَه، ووقع لأبي ذرٍّ بعد قوله: {فَاكْتُبُوهُ}: <إلى قوله: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}> وساق في رواية الأصيليِّ وكريمةَ الآيةَ كلَّها، وكذا التي بعدها، انتهى.
          وهذه أطولُ آيةٍ في القرآن، ولم يسق في البابِ حديثاً، إمَّا اكتفاءً بالآيتَين، وإمَّا إشارةً إلى الحديثِ الماضي قريباً في آخرِ بابِ الرَّهنِ.
          وقال ابنُ المنيِّر: وجهُ الاستدلالِ بالآيةِ للتَّرجمةِ أنَّ المدَّعي لو كان القولُ قولَه لم يحتَجْ إلى الإشهادِ، ولا إلى كتابةِ الحقوقِ وإملائها، فالأمرُ بذلك يدلُّ على الحاجةِ إليه، ويتضمَّنُ أنَّ البيِّنةَ على المدَّعي، ولأنَّ اللهَ حين أمرَ الذي عليه الحقُّ بالإملال اقتضى تصديقَه فيما أقرَّ به، وإذا كان مصدَّقاً فالبيِّنةُ على مَنِ ادَّعى تكذيبَه، انتهى.
          واستبعد العينيُّ قول الفتح إشارةً إلى الحديثِ المارِّ آخرَ باب الرَّهنِ عن ابنِ عبَّاسٍ، وهو أنَّ النبيَّ صلعم قضى أنَّ اليمينَ على المدَّعى عليه، انتهى.
          قال البيضاويُّ: إذا داينَ بعضُكم بعضاً تقولُ: دايَنتُه: إذا عاملته نسيئةً مُعطياً أو آخِذاً، وفائدةُ ذِكرِ الدَّينِ أن لا يُتوهَّمَ من التَّدايُنِ المجازاةُ، ويُعلمَ تنوُّعُه إلى الحول، والحالُ وأنَّه الباعثُ على الكِتْبةِ، ويكونُ مرجعَ ضميرِ {فَاكْتُبُوهُ}، انتهى.
          والدَّين ما كان مؤجَّلاً، والعين ما كانت حاضرةً، قال في ((المصباح)): دانَ الرَّجلُ دَيناً، من المدايَنة.
          قال ابنُ قُتيبةَ: لا يُستعملُ إلا لازماً فيمن يأخذُ الدَّين، وقال ابنُ السِّكِّيتِ وثعلبٌ والأزهريُّ: دانَ الرَّجلُ إذا استقرضَ، فهو دائنٌ، وعليه: فلا يقالُ منه: مَدينٌ، ولا مديونٌ؛ لأنَّ اسمَ المفعول إنَّما يكونُ من الفعلِ المتعدِّي، فإذا أردتَ التعدِّيَ قلتَ: أدنتُه ودايَنتُه، وقال جماعةٌ: يُستعملُ لازماً ومتعدِّياً، وعليه: فيُقال: مَدينٌ ومديونٌ، واسمُ الفاعل: دائنٌ، فيكون الدائنُ من يأخذُ الدَّينَ على اللزوم، ومن يُعطيه على التعدِّي.
          وقال ابنُ القَطَّاع: دِنتُه: أقرَضتُه، ودِنتُه: استقرَضتُه، ومنه قولُه تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}[البقرة:282] أي: تعامَلتُم بدَينٍ؛ أي: إذا تعاملتُم بدينٍ من مسلمٍ وغيرِه، وثبتَ بالآيةِ وبما تقدَّمَ أنَّ الدَّينَ لغةً هو القرضُ وثمنُ المبيعِ، فالصَّداقُ والغصْبُ ونحوُهما ليس بدينٍ لغةً، بل شَرعاً، على التَّشبيهِ لثُبوتِه واستقرارِه في الذِّمَّة، انتهى.
          وفي العينيِّ: يقال: دانَ فلانٌ يَدينُ دَيناً: استقرَضَ، وصار عليه دَينٌ، ورجلٌ مَديونٌ: كثُرَ ما عليه من الدَّين، ومِديانٌ _بكسر الميم_: إذا كان عادتُه أن يأخُذَ بالدَّين.
          وقال ابنُ الأثير: المِديَانُ: الكثيرُ الدَّينِ، الذي عليه الدُّيونُ، وهو مِفعالٌ من الدَّينِ للمُبالَغةِ، ويُقالُ للمَديونِ: مَدينٌ أيضاً، انتهى.
          ({إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}) متعلِّقٌ بـ (تداينتم) أو بقولِه: {فَاكْتُبُوهُ} بعده، أو بمحذوفٍ صفةُ {دَينٍ} والأجلُ: الوقتُ، والمسمَّى: المعلومُ، وقال البيضاويُّ: معلومٌ بالأيام والأشهُرِ، لا بالحصادِ وقدومِ الحاجِّ ({فَاكْتُبُوهُ}) أي: فأثبِتوه في كتابٍ مبيَّنٍ فيه قدرُ الحقِّ والأجلُ ليُرجَعَ إليه عند التنازُع والنِّسيان، وقال البيضاويُّ: لأنه أوثقُ وأدفعُ للنِّزاعِ، والجمهور على أنَّه استحبابٌ.
          وعن ابن عبَّاسٍ: المرادُ به: السَّلَمُ، وقال: لمَّا حرَّمَ اللهُ / الرِّبا أباحَ السَّلَفَ، انتهى.
          فالآيةُ نزلت _كما نقله الثوريُّ عن ابن عبَّاسٍ_ في السَّلمِ، وفي العينيِّ: الأمرُ للإرشاد لا للإيجابِ كما ذهبَ إليه مجاهدٌ وعطاءٌ.
          والأول مذهبُ الجمهورِ، فإن كتبَ فحسَنٌ، وإن تُركَ فلا بأسَ، وقال أبو سعيد والشعبيُّ والرَّبيع بنُ أنسٍ والحسنُ وابنُ جريجٍ وابن زيدٍ وآخرون: كان ذلك واجباً، ثم نُسخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}[البقرة:283] وذهب بعضُهم إلى أنه مُحكمٌ، انتهى مفرَّقاً.
          وقال ابنُ كثيرٍ: هذا إرشادٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملاتٍ مؤجَّلةٍ أن يكتُبوها؛ ليكونَ ذلك أحفظَ لمقدارِها ولميقاتِها، وأضبطَ للشَّاهد، ويقال كما ذكره السَّمرقنديُّ: من أدانَ دَيناً ولم يُكتَبْ، فإذا نُسيَ دينُه، ويدعو الله تعالى بأن يُظهِرَه، يقولُ اللهُ تعالى: أمرتُكَ بالكتابةِ فعصيتَ أمري.
          ({وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}) أي: بالقسطِ، فيكتبُ الدَّين بالحقِّ، من غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ.
          قال البيضاويُّ: هو في الحقيقةِ أمرٌ للمتداينَين باختيار كاتبٍ فقيهٍ ديِّنٍ، حتى يجيءَ مكتوبُه موثوقاً به معدَّلاً بالشرع.
          ({وَلاَ يَأْبَ}) أي: ولا يمتنِعْ ({كَاتِبٌ}) أي: أحدٌ من الكُتَّاب ({أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}) أي: مثلَما علَّمَه الله من كتابةِ الوثائق ما لم يكنْ يعلمُ، فليتصدَّقْ على غيرِه ممن لا يحسنُ الكتابةَ، كما جاء في الحديث: ((إنَّ من الصَّدقةِ أن تُعينَ صانعاً أو تصنَعَ لأخرقَ))، وفي الحديث أيضاً: ((مَن كتمَ عِلماً يعلمُه أُلجمَ يومَ القيامةِ بلجامٍ من نار)).
          وقال البيضاويُّ: أو: لا يأبَ أن ينفعَ الناسَ بكتابته كما نفعَه الله بتعليمِها، كقوله تعالى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[القصص:77] قال في ((الفتح)): ووقع للنسفيِّ بعد قولِه: {كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ}: <إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}> قال: وهو غلطٌ لا محالةَ، وكأنَّه سقط منه شيءٌ أوضحَتْه روايةُ غيره، انتهى.
          أي: وهو ذكرُ هذه الآية بكمالِها، وذكرُ الآيةِ الثانية التي في النِّساءِ إلى قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، فافهَمْ.
          وقوله: ({فَلْيَكْتُبْ}) قال البيضاويُّ: أي: تلك الكتابةَ المعلَّمةَ، أمرَ بها بعد النَّهي عن الإباءِ عنها تأكيداً، ويجوز أن تتعلَّقَ الكافُ بالأمر، فيكونُ النَّهي عن الامتناع منها مُطلقةً، ثم الأمرُ بها مقيَّدةً ({وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}) أي: وليُمِلَّ على الكاتبِ من عليه الدَّينُ.
          وقال البيضاويُّ: وليكُن المملُّ من عليه الحقُّ؛ لأنَّه المقرُّ المشهودُ عليه، والإملالُ والإملاءُ واحدً، وقال القاضي إسماعيلُ بنُ إسحاقَ: ظاهرُ قوله ╡: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يدُلُّ على أنَّ القولَ قولُ من عليه الشيءُ، وقال غيرُه: لأنَّ الله تعالى حين أمرَه بالإملاءِ اقتضى تصديقَه فيما عليه، فإذا كان مصدَّقاً فالبيِّنةُ على من يدَّعي تكذيبَه.
          ({وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}) أي: ليخفِ المملي، أو الكاتبُ، أو كلٌّ منهما مولاه الذي ربَّاه ({وَلاَ يَبْخَسْ}) أي: ولا يُنقِصْ؛ أي: أحدُهما، أو الكاتبُ ({مِنْهُ}) أي: من الحقِّ، قيل: أو من الكاتبِ بأن لا يُخفيَ عنه ({شَيْئاً}) نكرةٌ، فشملَ القليلَ والكثيرَ، وهو منصوبٌ، مفعولٌ به، / أو مفعول مطلقٌ، صفةُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: بَخْساً شيئاً، و{منه} للابتِداء، متعلِّقٌ بـ{يبخس} أو حالٌ من {شيئاً}؛ لأنه كانَ صِفةً له، فلما تقدَّمَ انتصب حالاً منه، كقولِه تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] على القاعدةِ أنَّ نعتَ النَّكِرةِ إذا تقدَّمَ عليها انتصَبَ حالاً، أشار إلى ذلك السَّمينُ في إعرابِه.
          ({فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}) أي: الدَّينُ ({سَفِيهاً}) أي: ناقصَ العقلِ مُبذِّراً لماله فحُجِرَ عليه ({أَوْ ضَعِيفاً}) أي: صبيَّاً، أو مجنوناً، أو شيخاً مُختلًّا عاجزاً عن مصالِحِه ({أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ}) أي: أو إنْ كان الذي عليه الحقُّ عاجزاً عن الإملاءِ بنفسِه لخرسٍ أو جهلٍ باللُّغةِ، أو نحوِ ذلك ({فَلْيُمْلِلْ}) أي: فليُمِلَّ ({وَلِيُّهُ}) أي: الذي يلي أمرَه ويقومُ مقامَه من قيِّمٍ أو وكيلٍ أو مترجِمٍ ({بِالْعَدْلِ}) أي: غيرَ جائرٍ.
          قال البيضاويُّ وغيرُه: وهو دليلُ جريانِ النِّيابةِ في الإقرار، ولعلَّه مخصوصٌ بما تعاطاه القيِّمُ أو الوكيلُ، انتهى.
          وقال العينيُّ: وقيل: وليُّه هو صاحبُ الدَّين، يُملي دينَه، والأول أصحُّ؛ لأنَّ في الثاني ريبةً، انتهى.
          ({وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ}) أي: واطلُبوا شاهدينِ يشهدانِ على الدَّينِ ({مِنْ رِجَالِكُمْ}) قال البيضاويُّ: أي: من رجال المسلمين، وهو دليلُ اشتراطِ إسلامِ الشهود، وإليه ذهب عامَّةُ العلماء.
          وقال أبو حنيفةَ: تسمَعُ شهادةُ الكفَّارِ بعضِهم على بعضٍ، انتهى.
          وقال العينيُّ: {مِنْ رِجَالِكُمْ} أي: من أهلِ مِلَّتكم من الأحرارِ البالغين، وهذا مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعي وسُفيانَ وأكثرِ الفقهاء، قال: وأجاز شريحٌ وابنُ سيرينَ شهادةَ العبدِ، وهذا قولُ أنس بنِ مالكٍ، وأجازَ بعضُهم شهادتَه في الشَّيءِ التافهِ، وإنَّما أمرَ بالإشهادِ مع الكتابةِ لزيادة التَّوثُّق، انتهى.
          وأقول: حقُّه أن يتعرَّضَ لشهادةِ الكُفَّارِ على مذهبِه.
          ({فَإِنْ لَمْ يَكُونَا}) أي: الشَّاهدانِ ({رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}) أي: فالشاهدُ رجلٌ وامرأتان، والجملةُ: جوابُ الشرطِ مقرونةٌ بالفاء؛ لأنَّها جملةٌ اسميَّةٌ، وقيل: التَّقديرُ: فليشهَدْ رجلٌ وامرأتانِ، فالجملةُ فعليةٌ، وهي جوابُ الشرط أيضاً، وهذا _كما قال البيضاويُّ_ مخصوصٌ بالأموالِ أو بما يُفضي إليها عند الشافعيَّة، وبما عَدا الحدودَ والقصاصَ عند أبي حنيفةَ، وأُقيمَتِ المرأتانِ مقامَ الرَّجلِ الواحدِ لنُقصانِ عقلِ النِّساء، كما جاء في الحديث.
          ({مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}) أي: لعِلمِكم بعدالتِهم، وقوله: ({أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}) بفتح همزة {أنْ} وانتصابه على أنَّه مفعولٌ لأجله _كما قال الزَّمخشريُّ_، وقال البيضاويُّ: علَّةُ اعتبارِ العددِ؛ أي: لأجلِ أنَّ إحداهما إن ضلَّت الشَّهادةَ بأن نسيَتْها ذكَّرتْها الأخرى، والعلَّةُ في الحقيقة التَّذكيرُ، لمَّا كان الضَّالُّ سبباً له نزِّلَ منزلَتَه، كقولهم: أعددتُ السِّلاحَ أنْ يجيءَ عدوٌّ فأدفعَه، وكأنَّه قيل: إرادةَ أن تذكِّر إحداهما الأخرى إن ضلَّتْ.
          وفيه: إشعارٌ بنقصانِ عقلهنَّ وقلَّةِ ضبطهنَّ، وقرأ حمزةُ: {إنْ تَضِلَّ} على الشرطِ {فتُذكِّرُ} بالرفع، وقرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو ويعقوبُ / : {فتُذْكِرَ} من الإذكار، انتهى.
          وقوله: وبالرَّفع؛ أي: خبراً لمحذوف؛ أي: فهي تذكِّرُ، والجملةُ: جوابُ الشرط.
          ({وَلاَ يَأْبَ}) مجزومٌ بحذف الألف؛ أي: ولا يمتنعْ ({الشُّهَدَاءُ}) جمعُ: شهيدٍ ({إِذَا مَا دُعُوا}) أي: طُلِبوا لتحمُّلِ الشهادة، وسمُّوا حينئذٍ شُهداءَ تنزيلاً لِما يُشارِفُ الوقوعَ منزِلةَ الواقع، والظَّاهرُ أنَّ المرادَ: إذا طُلبوا لأدائها بعد تحمُّلِها، و{ما} صلةٌ للتأكيد.
          ({وَلاَ تَسْأَمُوا}) أي: ولا تضجَروا وتمَلُّوا ({أَنْ تَكْتُبُوهُ}) أي: من أن تكتُبوا الحقَّ أو الكتابَ لكثرةِ مُداينتِكم، وقيل _كما في البيضاويِّ_: كنَّى بالسَّأمِ عن الكسل؛ لأنَّه صفةُ المنافق، ولذلك قال عليه السَّلامُ: ((لا يقولُ المؤمنُ: كَسِلْتُ)).
          ({صَغِيراً أَوْ كَبِيراً}) بالنصب على الحال؛ أي: قليلاً كان المالُ أو كثيراً، أو مُختصَراً الكتابُ أو مُطوَّلاً ({إِلَى أَجَلِهِ}) أي: إلى وقت حُلولِه.
          تنبيه: قال العينيُّ أخذاً من ابن الملقِّن مع زيادةٍ: هذا أمرُ ندبٍ، وقيل: فرضُ كفايةٍ، وقيل: فرضُ عينٍ، وهو قول قتادة والرَّبيعِ، وقال مجاهدٌ وأبو مجلَزٍ وغيرُ واحدٍ: إذا دُعيْتَ لتُستشهَدَ فأنت بالخيار، وإذا شَهِدتَ فدُعيْتَ فأجِبْ.
          ({ذَلِكُمْ}) إشارةٌ إلى {أَن تَكْتُبُوْهُ} لأنه في معنى المصدر، وقيل: {ذلكم} أي: الذي أمرناكُم به من الكتابة ({أَقْسَطُ}) أي: أعدَلُ ({عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}) أي: وأثبتُ لها وأعوَنُ على إقامتِها، فلا يقعُ في ريبٍ، كما قال تعالى: ({وَأَدْنَى أَنْ لاَ تَرْتَابُوا}) أي: في مقدارِ الحقِّ أو الأجلِ، أو في أصلِهما، أو في الشهود.
          قال البيضاويُّ في: أقسَط وأقوَمَ: وهما مبنيَّانِ من: أقسَطَ وأقامَ، على غيرِ قياسٍ، أو من: قاسطٍ؛ بمعنى: ذي قسْطٍ وقويمٍ، وإنَّما صحَّتِ الواوُ في {أقوَم} كما صحَّتْ في التعجُّبِ؛ لجمودِه، انتهى.
          ومرادُه: أنَّ عينَ {أقوم} لم تُقلَبْ ألفاً في التفضيل والتعجُّب؛ لعدمِ تصرُّفِهما.
          ({إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}) استثناءٌ من الأمرِ بالكتابة، وقيل: استثناءٌ منها ومن الاستشهاد، والتجارةُ الحاضرةُ تعمُّ المبايعةَ بالدَّينِ أو العين، وإدارتُها بينهم: تعاطيهِم لها يداً بيدٍ، فلا بأسَ بعدمِ الكتابةِ؛ لبُعده عن التنازُع والنِّسيانِ، وقرأ عاصمٌ: {تجارةً} بالنَّصب على الخبريةِ لـ{كان} واسمُها ضميرٌ مستترٌ يعودُ للتجارةِ، ورفعها بقيَّةُ القرَّاءِ على أنَّها الاسمُ، والخبرُ: جملةُ: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} ويحتملُ أن تكون تامَّةً، وعليه: فجملةُ: {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} صفةُ {تجارةٌ} كهي على نصب {تجارةً} كما أشارَ إلى ذلك البيضاويُّ وغيرُه.
          ({فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}) أي: حرجٌ وإثمٌ ({أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا}) أي: في أن تكتُبوا التِّجارةَ ({وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}) أي: هذا البيعَ، أو مطلقةٌ، قال البيضاويُّ: والأوامرُ في هذه الآيةِ للاستحبابِ عند أكثر الأئمَّةِ، وقيل: للوجوبِ، ثم اختُلفَ في إحكامِها ونسخِها.
          ({وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}) {يُضارَّ} بتشديد الرَّاء مفتوحةً، يحتمِلُ بناءه للفاعل وللمفعول، ولذا قال البيضاويُّ: يحتملُ البناءَين، ويدُلُّ عليه أنَّه قُرئَ: ▬ولا يُضارِرَ↨ بالكسر والفتح، وهو نهيٌ لهما عن تَركِ الإجابةِ والتحريف والتغييرِ في الكتْبةِ والشَّهادةِ، أو النَّهيُ عن الضِّرار بهما؛ مثلِ أن يعجَّلا عن مهمٍّ ويكلَّفا الخروجُ عما حدَّ لهما، وأن لا يُعطى / الكاتبُ جعلَه، والشهيدُ مؤنةَ مجيئِه حيثُ كان.
          ({وَإِنْ تَفْعَلُوا}) أي: ضراراً بالكاتب والشاهد، أو ما نهيتُم عنه مُطلقاً ({فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}) أي: خروجٌ عن الطاعةِ لاحقٌ بكم ({وَاتَّقُوا اللَّهَ}) أي: خافوا من مخالفةِ أمرِه ونهيه ({وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}) أي: الأحكامَ المتضمِّنةَ لمصالحكم.
          ({وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}) أي: عالمٌ بحقائقِ الأمور وعواقبِها، لا يخفى عليه شيءٌ؛ لأنَّ عِلمَه مُحيطٌ بجميعِ الأشياء، قال البيضاويُّ: كرَّرَ لفظةَ {الله} في الجُملِ الثَّلاثِ لاستقلالِها، فإنَّ الأولى: حثٌّ على التقوى، والثانيةَ: وعدٌ بإنعامِه، والثالثةَ: تعظيمٌ لشأنِه، ولأنه أدخلُ في التَّعظيمِ من الكِناية.
          (وقَوْلُهُ) بالجرِّ عطفٌ على مدخولِ ((باب))، وبالرَّفعِ عطفٌ على ((باب)) أو مُستأنفةٌ (تَعَالَى) ولأبوَي ذرٍّ والوقت: <وقولُ الله ╡ مما هو في أواخِرِ سورةِ النساء> ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}) أي: مواظبينَ على العَدلِ، مجتهِدينَ في إقامتِه ({شُهَدَاءَ لِلَّهِ}) أي: بالحقِّ، تُقيمونَ شهاداتِكم لوجهِ الله، وهو خبرٌ ثانٍ، أو حالٌ ({وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}) قال البَيضاويُّ: أي: ولو كانَتِ الشهادةُ على أنفُسِكم بأنْ تقرُّوا عليها؛ لأنَّ الشَّهادةَ بيانُ الحقِّ، سواءٌ كان عليه أو على غيرِه.
          ({أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}) يعني: ولو كانتِ الشهادةُ على أصولِكم وأقاربِكم، ورَثةً أو غيرَهم ({إِنْ يَكُنْ}) أي: المشهودُ عليه، أو كلُّ واحدٍ منه ومن المشهودِ له ({غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً}) أي: فلا تمتنعوا من أداء الشَّهادةِ عليهما أو لهما، قال ابنُ الملقِّن في ((توضيحه)): اختصَمَ إلى رسولِ الله صلعم غنيٌّ وفقيرٌ، فكان صلعم مع الفقيرِ يرى أنَّ الفقيرَ لا يظلِمُ الغنيَّ، فنزلَتْ، أو نزلَتْ في الشهادةِ لهم وعليهم، انتهى.
          وقوله: ({فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}) هو عِلَّةُ الجواب، أُقيمَتْ مَقامَه، وثنَّى الضميرَ مع العطف بـ (أو)؛ لأنَّ المرادَ بها التنويعُ والتقسيم، وحكمُها كالواو.
          وقال البيضاويُّ: والضَّمير في: {بهما} راجعٌ إلى ما دلَّ عليه المذكورُ، وهو جنسا الغنيِّ والفقيرِ، لا إليه، وإلا لوُحِّد، ويشهدُ له أنَّه قُرئَ: ▬فالله أولى بهم↨.
          ({فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}) أي: لأنْ تَعدِلوا عن الحقِّ، أو كراهةَ أن تعدِلوا، من العدْلِ ({وَإِنْ تَلْوُوا}) أي: ألسنتَكم عن شهادةِ الحقِّ أو حكومةِ العدل، قرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وعاصِمٌ والكِسائيُّ: بإسكانِ اللامِ، وبعدَها الواوان، الأولى مضمومةٌ، والثانيةُ ساكنةٌ، وقرأ حمزةُ وابنُ عامرٍ: ▬وإن تلُوا↨ بضم اللام وواوٍ واحدةٍ ساكنةٍ؛ بمعنى: وإنْ وَلِيتُم إقامةَ الشَّهادة.
          ({أَوْ تُعْرِضُوا}) أي: عن أدائها ({فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}) وهذا تعليلٌ لجوابِ: {إنْ} المحذوفِ؛ أي: وإنْ تَلوُوا أو تُعرِضوا فإنَّ الله يُجازيكم على ذلك؛ لأنَّه خبيرٌ بما تعملون من خيرٍ أو غيرِه.