الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا زكى رجل رجلًا كفاه

          ░16▒ (باب إِذَا زَكَّى) بتشديد الكاف المفتوحة (رَجُلٌ) أي: واحدٌ (رَجُلاً كَفَاهُ) أي: فلا يحتاجُ إلى مزكٍّ آخرَ معه، والذي ذهبَ إليه الشافعيَّةُ والمالكيَّةُ والحنابلةُ، وهو قولُ محمدِ بنِ الحسَنِ: اشتراطُ اثنَين.
          (وَقَالَ أَبُو جَمِيلَةَ) بفتح الجيم وكسر الميم، واسمُه: سُنَينٌ _بضم السين المهملة وتخفيف النونَين بينهما تحتية ساكنة_.
          قال في ((الفتح)): ووهَمَ مَن شدَّد التحتيَّة كالدَّاوديِّ، وقيل: إنها روايةُ الأصيليِّ، انتهى.
          قال العينيُّ: لم ينفرِدْ _يعني: الدَّاوديَّ_ بالتشديد، فإنَّ البُخاريَّ / ذكر في ((تاريخه)) أنَّ ابنَ عُيينةَ وسليمانَ بن كثيرٍ كانا يثقِّلان سُنيناً، واقتصر عليه ابنُ التين، انتهى.
          سُلَميٌّ، وقيل: ضُمريٌّ، وقيل: سليطيٌّ، وذكرَه العجليُّ وجماعةٌ من التابعين، وذكره آخرون في الصحابة، وذكر ابنُ عبدِ البرِّ أنه حجَّ حجَّةَ الوداع، وأنه خرج مع النبيِّ عامَ الفتح.
          ذكره في ((الفتح)) وقال فيه أيضاً: وفي الرُّواة: أبو جميلةَ، آخِرُ اسمِه: مَيسَرةُ الطُّهَريُّ _بضم الطاء وفتح الهاء_ وهو كوفيٌّ، روى عن عثمانَ وعليٍّ، وليست له صُحبةٌ اتفاقاً، قال: ووهَمَ مَن جعَلَه صاحبَ هذه القِصَّةِ، كالكِرمانيِّ، انتهى.
          وضبطَ الكِرمانيُّ بضم الطاء المهملة وفتح الهاء، وقيل: بسكونها، قال: وقد يفتحون الطاءَ مع سكون الهاءِ، انتهى، فاعرِفْه.
          (وَجَدْتُ مَنْبُوذاً) بالذال المعجمة؛ أي: لقيطاً مطروحاً، ولم يُسَمَّ (فَلَمَّا رَآنِي عُمَرُ) أي: ابنُ الخطَّابِ ☺ (قَالَ: عَسَى الْغُوَيْرُ) بضم الغين المعجمة، تصغيرُ: غارٍ (أَبْؤُساً) بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها همزةٌ مضمومةٌ فسين مهملة، جمعُ: بُؤسٍ؛ وهو الشِّدَّةُ، وقيل: الأَبؤُسُ: مُفرَدٌ؛ بمعنى: الدَّاهية، وانتصبَ على أنه خبرٌ ليكونَ محذوفة؛ أي: عسى الغُوَيرُ أن يكونَ أَبؤُساً، وهو مثلٌ مشهورٌ يقالُ لمن ظاهرُه السلامةُ ويُخشى منه العطبُ.
          وروى الخلَّالُ عن الزهريِّ: أنَّ أهلَ المدينةِ يتمثَّلون به في ذلك كثيراً، وقال سفيانُ: أصلُه أنَّ ناساً كان بينهم وبين آخرين حربٌ، فقالت لهم عجوزٌ: احذروا مِن هؤلاء؛ فإنهم لا يَأْلونَكم شَرًّا، فلم يلبَثُوا أن جاءَهم فزَعٌ، فقالت العجوزُ: عسى الغُوَيرُ أبؤُساً؛ تعني: لعلَّه أتاكمُ البأسُ من قبلِ الغُوَيرِ، وهو شعبٌ، كذا في ابن الملقِّن.
          وأصل المثَلِ _كما قال الأصمعيُّ_ أنَّ ناساً دخلوا يبيتونَ في غارٍ، فانهار عليهم فقتلهم، فصار مثَلاً لكلِّ شيءٍ يُخافُ أن يأتيَ منه شرٌّ.
          وقيل: أولُ مَن تكلَّمَ به الزَّباءُ _بفتح الزاي وتشديد الموحدة ممدوداً_ لمَّا عدلَ قصيرٌ بالأحمال عن الطريقِ المألوفةِ، وأخذ على الغُوَيرِ أَبؤُساً؛ أي: عساه أن يأتيَ بالبأسِ والشر، وأرادَ عمرُ بالمثَلِ: لعلَّكَ زنَيتَ بأمِّه وادَّعيتَه لقيطاً، قاله ابنُ الأثير.
          وقال في ((الفتح)): وأصلُ المثَلِ _كما قال الأصمعيُّ_ أنَّ ناساً دخَلوا غاراً يبيتون به، فانهارَ عليهم فقتلهم، وقيل: وجدوا فيه عدواً لهم فقتلوهم، فقيل ذلك لكلِّ مَن دخل في أمرٍ لا يعرفُ عاقبتَه.
          وقال ابنُ الكَلبيِّ: ((الغُوَير)) مكانٌ معروفٌ فيه ماءٌ لبني كلبٍ، كان فيه ناسٌ يقطعون الطَّريقَ، وكان مَن يمُرُّ بهم يتواصَونِ بالحراسة.
          وقال ابنُ الأعرابيِّ: ضرب عمرُ هذا المثلَ للرَّجلِ يعرِّضُ بأنَّه في الأصل ولدُه، وهو يريدُ نفيه عنه بدعواه أنه التقطه، فهذا معنى قوله: ((كأنه يتَّهمُني)) وقيل: أولُ من تكلَّمَ بهذا المثلِ الزَّبَّاءُ لمَّا قتلَتْ جَذِيمةَ الأبرشَ.
          وأراد قصيرٌ أن يقتَصَّ منها، فتواطأ قصيرٌ وعمرُو بنُ أختِ جذيمةَ على أنْ قطَعَ عمرٌو أنفَ قصيرٍ، فقالت العربُ لأمرِ ما جذعَ قصيرٌ أنفَه، فأظهر قصيرٌ أنه هربَ من عمرٍو إلى الزَّبَّاءِ، فأمنَتْ إليه، ثم أرسلتْه تاجراً المرَّةَ بعد الأخرى، وهو يرجعُ إليها بربحٍ كثيرٍ، إلى أن جاءَها في المرَّة الأخيرةِ بالرِّجالِ في الأعدالِ معهمُ السلاحُ، فنظرت إلى الجمالِ تمشي رُوَيداً، فقالت: عسى الغُوَيرُ أبؤساً؛ أي: لعلَّ الشر يأتيكم من قبلِ الغُوَير؛ لأنَّ قصيراً كان أعلمَها أنه يسلُكُ في هذه المرَّةِ الغُوَيرَ، فلما وصلَ بالأحمالِ خرجتِ الرِّجالُ منها، فهربتِ الزَّبَّاءُ في سردابٍ لها لتخرُجَ منه، فقعد لها قصيرٌ على بابِه، فلما رأَتْه قتلَتْ نفسَها.
          وقد سقط قولُه: <عسى الغُوَيرُ أبؤساً> لغيرِ الأصيليِّ / ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ.
          (كَأَنَّهُ يَتَّهِمُنِي) بتشديد المثناة الفوقية وكسر الهاء؛ أي: كأنَّ عمرَ يتَّهمُ أبا جميلةَ.
          قال ابنُ بطَّال: اتَّهمه عمرُ أن يكونَ ولدُه أتى به ليفرِضَ له في بيتِ المال، قال في ((الفتح)): وهو بعيدٌ.
          (قَالَ عَرِيفِي) بتخفيف الراء؛ أي: القَيِّمُ بأمورِ القبيلةِ والجماعةِ من الناس يلي أمورَهم، ويُعرِّفُ الأميرَ أحوالَهم.
          قال في ((الفتح)): لم أقفْ على اسم هذا العريفِ، لكن ذكرَ أبو حامدٍ الإسفَراينيُّ في ((تعليقه)): أنَّ اسمَه سِنانٌ، وذكر ابنُ عبدِ البَرّ في ((الصحابة)): سنانٌ الضَّمريُّ، استخلفه الصديقُ مرَّةً على المدينة، فيحتمل، أنه هو فقد قيل: إنَّ أبا جميلةَ ضمريٌّ.
          قال ابنُ بطَّال: كان عمرُ قسمَ الناسَ، وجعل على كلِّ قبيلةٍ عريفاً ينظرُ عليهم.
          قال في ((الفتح)): فإن كان أبو جميلةَ سُلمياً، فينظُرُ من كان عريفَ بني سُليمٍ في عهدِ عمرَ.
          وقوله: (إِنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ) مقولُ ((قال))، وضميرُ ((إنه)) لأبي جميلةَ (قَالَ) أي: عمرُ للعريفِ المذكور (كَذَلكَ) أي: أهو كذلك، فالاستفهام مقدَّرٌ بدليلِ أنه زادَ في روايةِ مالكٍ: ((قال: نعم)) وقيل إنَّ الكلامَ خبريٌّ.
          وقوله: (اذْهَبْ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ) مقولُ ((قال)) مُقدَّرةٌ؛ أي: قال عمرُ لأبي جميلةَ: اذهب؛ أي: بالمنبوذِ، زاد مالكٌ: ((فهو حرٌّ ولك ولاؤه))؛ أي: تربيتُه ((وعلينا نفقتُه)) أي: في بيت المال، بدليل روايةِ البيهقيِّ: ((ونفقَتُه في بيت المال)) وأخرج البيهقيُّ كما في ((الفتح)) هذه القصَّةَ موصولةً بسندِه عن أبي جميلةَ أنه خرَجَ مع النبيِّ عليه السَّلامُ عامَ الفتحِ، وأنه وجدَ منبوذاً في خلافةِ عمرَ فأخذَه، قال: فذكر ذلك عَريفي لعمرَ، فلمَّا رآني عمرُ ذكرَه، وزاد: ((ما حمَلَك على أخذِ هذه النسَمة؟ قلتُ: وجدتُها ضائعةً فأخذتُها)).
          وفيه المطابقةُ للترجمة، فإنَّ عمرَ اكتفى بتزكيةِ العَريفِ، وهذا مذهبُ البُخاريِّ أيضاً.
          قال شيخُ الإسلام تَبعاً لابنِ بطَّالٍ وغيرِه: وبه قال أبو حنيفةَ، واشترطَ الجمهورُ رجلَين كسائر الشهادات، انتهى.
          لكن قال ابنُ بطَّالٍ في هذه القصَّة: إنَّ القاضيَ إذا سأل في مَجلِسِ نظَرِه عن أحدٍ؛ فإنه يجتزئُ بواحدٍ كما صنعَ عمرُ، فأما إذا كلَّفَ المشهودَ له أن يعدِّلَ شهودَه فلا يقبَلُ أقلَّ من اثنَين، انتهى.
          وفيه كما في ((الفتح)) أنَّه ليس في القصةِ أنه لم يُشهِدْ إلا عريفَه، وقد وقع في ((المطالع)) أنَّ عمرَ لمَّا اتَّهمَ أبا جميلةَ شَهِدَ له جماعةٌ.
          وفي القصة: تثبُّتُ عمرَ ☺ في الأحكام، وأنَّ الحاكمَ إذا توقَّفَ في أمرِ أحدٍ لم يكُنْ ذلك قادحاً فيه، وأنه يرجِعُ إلى قولِ أمَنائه.
          وفيها: أنَّ الثناءَ على الرجلِ في وجهِه عند الحاجة لا يُكرَهُ، وإنَّما يكرهُ الإطنابُ في ذلك، ولهذا ترجم البُخاريُّ عقبَ هذا بما يكرهُ من الإطنابِ في المدح.
          وفيها: جوازُ الالتقاط وإن لم يُشهِدْ، وأنَّ نفقة اللَّقيطِ إذا لم يوجدْ معه مالٌ في بيتِ المال، وأن ولاءَه لملتقطِه، وغيرُ ذلك من الأحكام، ككونه حُرًّا بحُكمِ الدار.
          وهذا مذهبُ الجمهور، منهم الأئمَّةُ الأربعةُ، وعليُّ بن أبي طالبٍ، وعمرُ بنُ عبدِ العزيز، وإبراهيمُ النخعيُّ، والشعبيُّ، وقال قومٌ: إنه يكونُ عبداً.