الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الشهداء العدول

          ░5▒ (باب الشُّهَدَاءِ الْعُدُولِ) أي: بيانهم، الشهداءُ _بالمدِّ_ ككُرَماء؛ جمعُ: شهيدٍ أو شاهدٍ، والعُدُول _بضمتَين_ جمع: عَدْل _بفتح العين_: وهو المسلمُ غيرُ مُرتكبِ كبيرةٍ، ولا مصرٌّ على صغيرةٍ، وشرطُ الشَّاهدِ: إسلامٌ، وعدالةٌ، وحرِّيةٌ، وتكليفٌ، ونطقٌ، وبصرٌ، وتيقُّظٌ، ومحافظةٌ على مُروءَةِ أمثالِه، غيرُ محجورٍ عليه بسَفهٍ، ولا مُتَّهمٌ، فلا تقبَلُ شهادةُ أضدادِ هؤلاءِ من كافرٍ، وغيرِ عدْلٍ، ورقيقٍ، وصغيرٍ، ومجنونٍ، وأخرسَ، وأعمى؛ لانسدادِ طرُقِ المعرفةِ عليه مع اشتباهِ الأصواتِ، إلا في مواضعَ منها: أن يُقِرَّ أحدٌ في أذُنِه، فيُمسكَه إلى أن يؤدِّيَ الشَّهادةَ، ولا مُغفَّلٍ؛ لعدمِ ضبطِه، إلا الغلطَ اليسيرَ، فلا يضُرُّ؛ لأنه لا يخلو منه أحدٌ، ولا شهادةُ من لا يُحافظُ على مروءةِ أمثالِه زماناً ومكاناً، ولا محجورٍ عليه بسَفَهٍ، ولا متَّهَمٍ بأنْ يجُرَّ لنفسِه نفعاً، أو يدفَعَ عنها ضرراً؛ كشهادةِ أحدِ الشريكينِ لشريكِه فيما يتعلَّقُ بالشركةِ، وتفصيلُ الكلامِ على هذه الشروطِ مبسوطٌ في الفروع.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ، ويجوزُ الرفعُ، وفي بعض الأصول: <وقولِ اللهِ ╡> ({وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]) هذه الآيةُ في سورة الطلاقِ، وهي في شأنِ المرأة الرجعيَّةِ، والأمرُ فيها للنَّدبِ؛ أي: وأشهِدوا على الرَّجعةِ أو الفُرقةِ تنزُّهاً عن الرِّيبةِ، وقطعاً للتنازُعِ، وهو ندبٌ، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}[البقرة:282] وعن الشافعيِّ: وجوبُه في الرَّجعةِ، قاله البيضاويُّ، ومناسبةُ الآيةِ للترجمةِ في قولِه: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2] و{ذوَي} تثنيةُ ذي بمعنى: صاحب.
          (و{مِمَّنْ...}) إلخ، عطفٌ على {أَشهِدوا} فالواوُ من كلامِ البخاريِّ، لا من التِّلاوة؛ أي: وقولِه تعالى في سورةِ البقرة: / ({ممَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}) أي: لعلمِكم بعدالتِهم، فإذا لم ترضَوهم لعدَمِ عدالتِهم، أو لمانعٍ آخرَ، فلا تُشهدوهم، قال النخعيُّ: العدْلُ: الذي لم يظهَرْ فيه رِيبةٌ، وعنه أيضاً: العدلُ في المسلمين ما لم يطعنْ في بطْنٍ ولا فرْجٍ.
          وقال الشعبيُّ: تجوزُ شهادةُ المسلمِ ما لم يُصِبْ حداً، أو يُعلَمْ عنه جَريمةٌ في دينه، وعن حبيبٍ قال: سأل عمرُ بنُ الخطَّابِ رجلاً عن رجلٍ، فقال: لا نعلمُ إلا خيراً، فقال: حسبُكَ، وقال شريحٌ: ادعُ وأَكثِرْ وأَطنِبْ وائتِ على ذلك بشُهودٍ عُدولٍ، فإنا قد أُمِرنا بالعدل، وأنت فسلْ عنه، فإن قالوا: الله يعلَمُ، يَفرُقوا _أي: خافوا_ أن يقولوا: هو مُريبٌ، ولا تجوزُ شهادةُ مُريبٍ، فإن قالوا: عَلِمناه عَدْلاً مُسلماً، فهو إن شاء الله كذلك، وتجوزُ شهادتُه.
          وفي ((الرسالة)) للشافعيِّ: العدلُ: هو العامِلُ بطاعة الله، فمن رُؤيَ عاملاً بها فهو عَدْلٌ، ومن عَمِلَ بخلافِها كان خلافَ العدل.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: كلُّ حاملِ علمٍ معروفُ العنايةِ به، فهو عَدلٌ حتى يتبيَّنَ جَرحُه؛ لقوله عليه السَّلام: ((يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلفٍ عُدولُه)) جوَّدَه أحمدُ، وخُولِفَ.