الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب شهادة المختبي

          ░3▒ (باب شَهَادَةِ الْمُخْتَبِي) أي: بابُ بيانِ حُكمِ شهادتِه، وهو بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح المثناة الفوقية وكسر الموحدة فهمزة، وقد تُبدَلُ تحتيةً ساكنةً، والمرادُ به: المختفي عند التحمُّل، ففي ((القاموس)): خبَّأَه _كمنعَه_: ستَره، كخبَّأه واختبَأَه، وامرأةٌ خُبَأةٌ _كهُمَزةٍ_ لازمةٌ بيتَها، والخَبْء ما خُبِئَ وغابَ، كالخبيء والخبيئةِ، ومن الأرضِ: النباتُ، ومن السماء: القَطرُ، وموضعٌ بمديَنَ، ووادٍ بالمدينة، وبهاءٍ: البنتُ، والخِباءُ _ككتابٍ_ سمةٌ في موضعٍ خفيٍّ من الناقةِ النَّجيبة، والجمعُ: أخبئةٌ، ومن الأبنية: معروفٌ، أو هي يائيةٌ، انتهى.
          (وَأَجَازَهُ) أي: الاختباءَ عند تحمُّلِ الشهادةِ برجوعِ الضميرِ إليه لدلالةِ الوصفِ عليه (عَمْرُو) بفتح العين (ابْنُ حُرَيْثٍ) بحاء مهملة فراء فمثلثة مصغَّرٌ، حارثٌ المخزوميُّ، وهو من صغار الصحابة، ولأبيه صُحبةٌ أيضاً، وليس له في البُخاريِّ ذكرٌ إلا في هذا الموضع.
          وقال الكرمانيُّ: مات رسولُ الله صلعم وهو ابن ثنتَي عشْرةَ سنةً، وهو أول قرشيٍّ اتخذَ بالكوفةِ داراً، وكان له فيها قدْرٌ وشَرفٌ، مات بها سنةَ خمسٍ وثمانين، انتهى.
          وهذا التعليقُ وصلَه البيهقيُّ، وكذا سعيدُ بنُ منصورٍ من طريقِ محمَّد بنِ عبيدِ الله الثقفيِّ: أنَّ عمرَو بنَ حُريثٍ كان يجيزُ شهادتَه، ويقول: وكذلك يُفعلُ بالخائنِ الفاجر، كذا في ((الفتح)).
          (قَالَ) أي: عمرٌو المذكورُ (وَكَذَلِكَ) أي: الاختباءُ (يُفْعَلُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يفعَلُه الشاهدُ عند التحمُّلِ (بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ) أي: بسببه إذا كان مديوناً، فيختبئُ مَن يريدُ الشهادةَ عليه ليُقرَّ في الخَلْوةِ، فيسمعَه، فيشهَدَ عليه وإن لم يرَه؛ اكتفاءً بالسَّمعِ.
          وقال ابنُ بطَّالٍ: الرجلُ الذي عسى أن يقولَ في خَلوتِه: أنا أُقِرُّ لك خالياً، ولا أُقِرُّ لك عند البيِّنةِ، فإنه يثبتُ ذلك عليه، وهذا معنى قولِ ابن حُريثٍ: ((وكذلك يُفعَلُ بالكاذبِ الفاجر)).
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) بضم الشين المعجمة وسكون العين / المهملة، هو عامرُ بن شُراحيلَ.
          (وَابْنُ سِيرِينَ) أي: محمدٌ (وَعَطَاءٌ) بالمد؛ أي: ابنُ أبي رباحٍ (وَقَتَادَةُ) بفتح القاف؛ أي: ابنُ دِعامةَ _بكسر الدال المهملة_ (السَّمْعُ شَهَادَةٌ) أي: وإن لم يَشهَدِ المقرَّ السامعُ، فيجوزُ أن يشهدَ عليه.
          قال في ((الفتح)): أما قولُ الشعبيِّ؛ فوصله ابنُ أبي شيبةَ عن هُشيمٍ، عن مُطرِّفٍ عنه بهذا، وروَيناه في ((الجعديَّاتِ)) قال: حدَّثنا شريكٌ عن الأشعثِ عن عامرٍ؛ وهو الشعبيُّ، قال: تجوزُ شهادةُ السَّمع إذا قال: سمعتُه يقولُ، وإنْ لم يشهَدْه، وقولُ الشعبيِّ هذا يُعارضُ ردَّه لشهادةِ المختبئ، ويحتملُ أن يُفرَّقَ بأنَّه إنَّما ردَّ شهادة المختبئِ؛ لما فيها من المخادَعةِ، ولا يلزَمُ من ذلك ردُّه لشهادةِ السمع من غير قصدٍ، وهو قولُ مالكٍ وأحمدَ وإسحاقَ، وعن مالكٍ أيضاً: الحرصُ على تحمُّلِ الشَّهادةِ قادحٌ، فإذا اختفى ليشهدَ فهو حرْصٌ.
          وأما قولُ ابنِ سيرينَ وقتادةَ فسيأتي في باب شهادة الأعمى، وأما قولُ عطاءٍ؛ وهو ابنُ أبي رباحٍ، فوصله الكرابيسيُّ في أدب القضاء من روايةِ ابنِ جريجٍ عن عطاءٍ بلفظ: ((السَّمعُ شَهادةٌ)).
          (وكان الْحَسَنُ) أي: البصريُّ (يَقُولُ: لَمْ يُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ، وَإِنِّي) بكسر الهمزة، ولأبي ذرٍّ: <ولكن> (سَمِعْتُ) أي: سمعتُهم يقولون (كَذَا وَكَذَا) هكذا قدَّره القسطلانيُّ تبعاً لشيخ الإسلام، ولعلَّ الأولى عدمُ التقدير، ويكونُ: ((كذا وكذا)) مفعولَ ((سمعت)) لا يقولون المقدَّرُ، وزاد شيخُ الإسلام عَقِبَه: ولا يقولُ: أشهدُ بذلك، والمشهورُ خِلافُه، انتهى.
          وهذا الأثرُ وصله ابنُ أبي شيبةَ بسندِه عن الحسنِ بلفظ: ((لو أنَّ رجلاً سمعَ من قومٍ شيئاً، فإنه يأتي القاضيَ فيقولُ: لم يُشهدوني، ولكن سمعتُ كذا وكذا)).
          قال في ((الفتح)): وهذا التفصيلُ حسنٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} [البقرة:283] ولم يقُل: الإشهادَ، فيفترقُ الحالُ عند الأداءِ، فإنْ سمعَه ولم يشهَدْه، فقال عند الأداء: أشهدَني، لم يقبَلْ، وإن قال: أشهدُ أنه قال كذا قُبِلَ، انتهى.
          وقال ابنُ الملقِّن: اختلفَ العلماءَ في شهادةِ المختبِي، فرُوي عن شُريحٍ والشعبيِّ والنخعيِّ أنهم كانوا لا يُجيزونها، وقالوا: إنه ليس بعدلٍ حين اختبى ممَّن يشهَدُ عليه، وهو قولُ أبي حنيفة والشافعيِّ في القديمِ دونَ الجديدِ، قال: وذكرَ الطحاويُّ في ((المختصر)) قال: جائزٌ للرجلِ أن يشهدَ بما سمِعَ إذا كان مُعايِناً لمن سمعَه منه، وإن لم يُشهِدْه على ذلك.
          قال الشافعيُّ في ((الكتاب الكبير)) للمزنيِّ: العلمُ من وجوهٍ ثلاثةٍ: ما عاينَه فشهِدَ به، وما تظاهرَتْ به الأخبارُ وثبتَ موقِعُه في القلوب، وشهادةُ ما أثبتَه سمعاً إثباتَ بصرٍ من المشهودِ عليه، ولذلك قلنا: لا تجوزُ شهادةُ الأعمى.
          قال: وأجاز شهادةَ المختبي ابنُ أبي ليلى ومالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ، إلا أنَّ مالكاً لا يجيزُها إلا على صحَّةِ أن لا يكونَ المقرُّ منخدِعاً ومقرِّراً على حقٍّ لا يقولُه بالبراءةِ، والمخرَجِ منه، ومثلِه من وجوه الحيَل، انتهى، فتأمَّلْه.