الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب القرعة في المشكلات

          ░30▒ (بابُ الْقُرْعَةِ) أي: مشروعيَّتِها (فِي المُشْكِلاَتِ) ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <من المشكِلاتِ> بـ <من> التعليليَّةِ، كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح:25] أي: لأجل بيانِ المشكِلات، أو هي بمعنى: في، كقولِه تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] وهي جمعُ: مُشكلٍ، فيقَعُ فيه النِّزاعُ لإشكاله، فتُزيلُ القُرعةُ إشكالَه، ونسبَ العينيُّ كالحافظِ روايةَ <مِن> للسَّرخَسيِّ، ووجهُ إدخالِ القُرعةِ في كتاب الشهاداتِ أنها / من جُملةِ البيِّناتِ التي تثبُتُ بها الحقوقُ من حيثُ إنها تنقطِعُ بها الخصومةُ كالبيِّنةِ، نبَّهَ عليه في ((الفتح)).
          وقال العينيُّ أخذاً من كلام ((الفتح)) المذكورِ: قلتُ: الأحسنُ أن يقالَ: وجهُ ذلك أنه كما يُقطعُ النِّزاعُ والخصومةُ بالبيِّنة، فكذلك يُقطعُ بالقُرعة، وهذا المِقدارُ كافٍ لوجهِ المناسبة، انتهى.
          وقد اختُلفَ في القُرعة، والجمهورُ على إثباتِها خلافاً للحنفية، وحكى ابنُ المنذِرِ عن أبي حنيفةَ القولَ بها، ولذا قال العينيُّ: وما نسَبَ بعضُهم إلى أبي حنيفةَ أنه أنكرَها فغيرُ صحيحٍ، انتهى.
          تنبيه: صفةُ القُرعةِ في الأنصباءِ المتساويةِ كالأثلاثِ والأرباعِ أن يكتَبَ في كلِّ رُقعةٍ اسمُ شريكٍ، كزيدٍ وعمرٍو، أو جزءٌ كنصفٍ مميَّزٍ بحدٍّ، أو جهةٌ، ويُدرَجُ في بنادِقَ مستويةً شكلاً ووزناً من طينٍ أو شمعٍ، ثم يخرجُ من لا يحضُرُها رُقعةً على الجزءِ الأولِ إن كتبَ الأسماءُ، فيُعطى من خرجَ اسمُه، أو على اسم زيدٍ إنْ كُتبَ الأجزاءُ، فيُعطى ذلك الجزءَ، ويفعلُ كذلك في الرُّقعةِ الثانية، فيُخرِجُها على الجزءِ الثاني، أو على اسمِ عمرٍو، وأما إذا اختلفتِ الأنصِباءُ، كنصفٍ وثُلثٍ وسُدُسٍ، فيجزَّأُ على أقلِّ السهام؛ وهو السُّدسُ، فتكون الأجزاءُ ستَّةً، وتقسَمُ كما سبَقَ، فاعرِفْه.
          وقال في ((الفتح)): والقُرْعةُ إما في الحقوقِ المتساوية، وإما في تعيينِ الملك، فمن الأوَّلِ عقدُ الخلافةِ إذا استوَوا في صفاتِ الإمامة، وكذا بين الأئمَّةِ في الصلاة، والمؤذِّنين والأقاربِ في تغسيلِ الموتى والصَّلاةِ عليهم، والحاضناتِ إذا كُنَّ في درجةٍ، والأولياءِ في التَّزويجِ، والاستباقِ إلى الصفِّ الأول، وفي إحياءِ المواتِ، وفي نقلِ المعدنِ ومقاعدِ الأسواقِ، والتقديمِ بالدعوى عند الحاكم، والتزاحُمِ على أخذِ اللَّقيطِ، والنزولِ في الخانِ المسبَلِ ونحوِه، وفي السفر ببعض الزَّوجاتِ، وفي ابتداءِ القسمِ والدُّخولِ في ابتداء النِّكاح، وفي الإقراعِ بين العبيدِ إذا أُوصيَ بعتقِهم ولم يسعهمُ الثُّلثُ، وهذه الأخيرةُ من صورِ القسمِ الثاني أيضاً، وهو تعيينُ الملكِ، ومن صُوَرِ تعيينِ الملكِ الإقراعُ بين الشركاءِ عند تعديلِ السِّهامِ في القَسْمِ، انتهى في الحقوقِ المتساويةِ إلى آخر ما في ((الفتح)).
          (وَقَوْلِهِ ╡) سقطَ: <╡> لغير أبي ذرٍّ؛ أي: وبابِ قولِ الله تعالى في قصَّةِ مريمَ ({إِذْ يُلْقُونَ} [آل عمران:44]) أي: حين يُلقي المقترِعون ({أَقْلاَمَهُمْ}) جمع: قلَمٍ _بفتحتين_؛ أي: أقداحَهُم للاقتِراع، وهي السِّهامُ، وسُمِّي السَّهمُ قَلَماً؛ لأنه يقلمُ؛ أي: يُبرى، وقيل: اقترعوا بأقلامِهِم التي كانوا يكتُبونَ بها التَّوراةَ تبرُّكاً.
          ({أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}) متعلِّقٌ بمحذوفٍ دلَّ عليه {يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} أي: يلقُونَها ليعلموا أو يقولوا {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}؛ أي: يضمُّها إلى نفسِه ويربِّيها رغبةً في الأجر؛ لأنَّ أمَّها لمَّا ولدَتْها لفَّتْها في خِرْقةٍ، وحملتها إلى المسجد، ووضعَتْها عند الأحبار، وقالتْ لهم: دونَكم هذه النَّذيرةُ، فتخاصَموا في كفالتِها، وكان المتخاصِمونَ فيها أيُّهم يكفَلُها بضعةً وعِشرين شخصاً، وذلك لأنَّها كانت بنتَ إمامِهم وصاحبِ قُربانِهم، فإنَّ بني ماثانَ كانوا رؤوسَ بني إسرائيلَ وملوكَهم، فقال زكريا: أنا أحقُّ بها، عندي خالتُها، فقال له الباقون: لا تطيبُ نفوسُنا إلا بقُرعةٍ، فانطلَقوا إلى نهرِ الأردُنِّ، فألقَوا فيه أقلامَهم، فطفى قلَمُ زكريَّا، ورسَتْ أقلامُهم، فتكفَّلَها زكريَّا، قاله البيضاويُّ.
          وقال في ((الفتح)): وأخرج ابنُ العَديمِ / في ((تاريخ حلبَ)) بسندِه إلى شُعيبِ بنِ إسحاقَ: ((أنَّ النهرَ الذي ألقَوا فيه الأقلامَ هو نهرُ قُويقٍ المشهورُ بحلَبَ))، انتهى.
          و((قُوَيقٌ)) بقاف فواو فمثناة تحتية فقاف آخره مصغراً.
          وقال العينيُّ: وأصلُ القصَّةِ أنَّ امرأةَ عمرانَ؛ وهي حنَّةُ بنتُ فاقودا كانت لا تحمِلُ، فرأت يوماً طائراً يزُقُّ فرخاً له، فاشتهَتِ الولَدَ، فدعَتِ اللهَ تعالى أن يهبَهَا ولداً، فحملَت، فنذرَت أن يكونَ مُحرَّراً لخدمةِ مسجدِ بيتِ المقدسِ {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36] ثم خرجَتْ بها في خرقَتِها إلى بني الكاهنِ ابنِ هارونَ أخي موسى عليهما السلام، وهم يومئذٍ خدَمةُ مسجِدِ بيت المقدس، فقالت لهم: دونَكم هذه، فإني حرَّرتُها، وهي ابنتي، ولا أردُّها إلى بيتي، فقالوا: هذه بنتُ إمامِنا، وكان عِمرانُ يؤمُّهم في الصلاة، وهو صاحبُ القُربانِ، فتنازَعوا فيها، وألقَوا أقلامَهمُ التي كانوا يكتُبونَ بها التَّوراةَ، فقَرَعَهم زكريَّا، وذكرَ عكرِمةُ والسُّديُّ وقتادةُ وغيرُهم أنهم ذهبوا إلى نهر الأردُنِّ، واقترعوا هنالك على أن يُلقوا أقلامَهم فيه، فأيُّهم ثبتَ في جِرْيةِ الماءِ فهو كافِلُها، فألقَوا أقلامَهم فيه، فاحتملَها الماءُ إلا قلمَ زكريَّا، فإنه ثبتَ فيه، فكفَلَها، انتهى ملخَّصاً.
          وقصَّةُ مريمَ مبسوطةٌ في آياتٍ من آلِ عمرانَ وفي التفاسير.
          (وقال ابنُ عبَّاسٍ) مما وصلَه ابنُ جريرٍ بمعناه كما في ((الفتح)) (اقْتَرَعُوا) أي: المتنازِعونَ في كفالةِ مريمَ عليها السَّلامُ.
          قال ابنُ التين: صوابُه: أقرَعوا، أو قارَعوا؛ لأنه رُباعيٌّ، وردَّه العينيُّ فقال: قد جاءَ: اقترَعوا كما جاء: أقرَعوا، فلا وجهَ لدعوى الصَّوابِ فيه، انتهى، فتدبَّر.
          (فَجَرَتْ) بالجيم، من الجَرَيانِ (الْأَقْلَامُ مع الْجِرْيَةِ) بكسر الجيم؛ أي: مع هيئةِ جرَيانِ الماء، لكنْ إلى أسفَلَ (وَعَالَ) بالعين المهملة واللام بعد الألف؛ أي: ارتفَعَ على الماء (قَلَمُ زَكَرِيَّاءَ) عليه الصَّلاة والسَّلامُ (الْجِرْيَةَ) مفعولُ ((عالَ)).
          قال ابنُ الملقِّن: الجِريةُ _بكسر الجيم_ مصدرٌ، تقول: جَرى الماءُ يجري جِريةً وجَرْياً وجَرَياناً، انتهى.
          (فَكَفَلَهَا) بتخفيف الفاء وتشديدها؛ أي: فأخذَ مريمَ (زكَرِيَّاءُ) وضمَّها إليه ليربِّيَها، قال القسطلانيُّ: وللأصيليِّ: <وعالى> بألف بعد اللام، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: <وعدا> بالدال بدلَ اللام، كذا في الفرعِ وأصلِه.
          وقال في ((فتح الباري)): وفي روايةِ الكشميهنيِّ: <وعلا> أي: بعينٍ فلام فألف، من العُلُوِّ، قال: وفي نسخةٍ: <وعدا> بالدال.
          تنبيه: قال البرماويُّ: ((اقتَرَعوا...)) إلخ، تفسيرٌ لقصَّةِ التنازُعِ في كفالةِ مريمَ عليها السلام، وكانوا إذا أرادوا الاقتِراعَ يُلقون الأقلامَ في النهرِ، فمن علا قلَمُه؛ أي: ارتفَعَ، كان الحظُّ له، انتهى.
          (وَقَوْلِهِ) عطفٌ على ((القُرعةِ))، أو قوله السابقِ ({فَسَاهَمَ} أَقْرَعَ {فَكَانَ من الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] يَعْنِي: مِنَ الْمَسْهُومِينَ) هذان التفسيرانِ رواهما ابنُ جَريرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، لكنْ في الثاني بلفظِ: ((فكان من المقروعين)) وعن مجاهدٍ بلفظِ: ((فكانَ من المسهومين)) ورُويَ الأولُ عن السُّديِّ بلفظ: ((فساهَمَ)) أي: قارَعَ.
          قال في ((الفتح)): وهي أوضحُ، وهذه الآيةُ في أواخرِ سورةِ الصافَّاتِ في حقِّ يونسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، ففاعِلُ الأفعالِ المذكورةِ ضميرٌ يرجعُ إليه في قولِه تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141].
          قال البيضاويُّ وغيرُه في {فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ}: فصار من المغلُوبينَ بالقُرعةِ، وأصلُه: / المزلَقُ عن مَقامِ الظَّفَر، رُويَ أنه لمَّا وعَدَ قومَه بالعذاب يوماً مخصوصاً خرَجَ من بينِهم قبلَ أن يأمُرَه الله تعالى به، فرَكِبَ السفينةَ، فوقفَتْ، فقالوا: هنا عبدٌ آبِقٌ، فاقتَرعوا، فخرجَتِ القُرعةُ عليه.
          قال ابنُ التين: وقعَتْ عليه القُرعةُ ثلاثَ مرَّاتٍ، وذكر مقاتلٌ أنهم قارَعوه ستَّ مراتٍ، وفي كلِّها تخرجُ عليه القُرعةُ، فقال: أنا الآبقُ، فرمى نفسَه في الماء، فالتقمَه الحوتُ، فأوحى الله إليه أن لا يَكسِرَ له عَظْماً.
          قال ابنُ الملقِّن والعينيُّ: واختلفَ في مدَّةِ مُكثِه في بطنه من يومٍ واحدٍ إلى أربعين يوماً، وأشار المصنِّفُ بإيراد الآيتينِ إلى الاحتجاجِ بهما على ثبوتِ القُرعةِ في الأشياءِ المشكِلةِ، لكنَّه مبنيٌّ على أنَّ شرعَ من قبلَنا شرعٌ لنا إذا لم يردْ في شرعِنا ما يُخالِفُه، وهو أحدُ قولين، الأصحُّ منهما عند الشافعيَّة خلافُه، وإن قال في ((الفتح)): والاحتجاجُ بهذه الآية في إثبات القُرعةِ يتوقَّفُ على القول بأنَّ شرعَ من قبلنا شرعٌ لنا، وهو كذلك ما لم يردْ في شرعِنا ما يخالِفُه، وهذه المسألة من هذا القبيل؛ لأنه كان في شَرعِهم جوازُ إلقاءِ البعضِ لسلامة البعض، وليس ذلك في شَرعِنا؛ لأنهم مستوونَ في عصمةِ الأنفُس، فلا يجوزُ إلقاؤهم بقُرعةٍ ولا غيرِها، انتهى، فتأمَّل، فإنه على ما قرَّرَه لا يظهرُ إيرادُ البخاريِّ لتَينِك، فافهم.
          (وقال أبو هُرَيْرَةَ) مما وصلَه المصنِّفُ فيما مضى قريباً في باب: إذا تسارَعَ قومٌ في اليمين (عَرَضَ) بتخفيف الراء (النَّبِيُّ صلعم عَلَى قَوْمٍ) تقدَّمَ في ذلك الباب أنِّي لم أقِفْ على تعيينِهم (الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا) أي: القومُ إلى اليمين (فَأَمَرَ) بفتحات؛ أي: النبيُّ صلعم (أَنْ يُسْهِمَ) ببنائه للمفعول؛ أي: أن يُقرِعَ (بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ) بتشديد ((أيُّ)) الاستفهاميةِ، مبتدأ (يَحْلِفُ) أي: أيُّهم يبدأ ُباليمين قبلَ الآخرِ.
          وفيه المطابقةُ للترجمة، فهو حجَّةٌ في العملِ بالقُرعةِ ومشروعيَّتِها.