الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف

          ░23▒ (بابٌ) بالتنوين (يَحْلِفُ) بفتح أوله وسكون ثانيه (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) بفتح العين (حَيْثُمَا) أي: في المكانِ الذي (وَجَبَتْ عَلَيْهِ) أي: على الشخص (الْيَمِينُ) بأن لم يكنْ للمدَّعي بينةٌ.
          (وَلاَ يُصْرَفُ) بسكون الصاد المهملة، مبنيٌّ للمفعول؛ أي: الشخصُ وجوباً (مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى غَيرِهِ): أي: للتغليظِ، و((لا يُصرَفُ)) خبريٌّ، فالفعل مرفوعٌ، وهذا مذهبُ الحنفيَّة والحنابلة، وإليه ذهبَ البخاريُّ، فلا يغلَّظُ عندهم بمكانٍ كالتَّحليفِ في المسجد، ولا بزمانٍ كالتحليفِ يومَ الجمُعةِ، قالوا: لأنَّ ذلك زيادةٌ على النصِّ.
          وقال الحنابلة: ولا يُغلَّظُ إلا فيما له خطرٌ كجِنايةٍ أو طلاقٍ إن قلنا يحلفُ فيهما، وعند الشافعيَّة: يغلَّظُ ندباً ولو لم يطلُب الخصمُ، لا بتكريرِ الأيمانِ؛ لاختصاصها باللِّعانِ والقسامةِ، ولا يغلَّظُ بالجمع لاختصاصه باللِّعانِ، بل بتعديدِ أسماءِ الله تعالى وصفاتِهِ، فيقولُ: مالكِ يوم الدِّينِ بالله الَّذي لا إلهَ إلَّا هو عالم الغيبِ والشهادةِ الرحمن الرحيم.
          وقال الشافعيُّ: يزيد: الذي يعلَمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدورُ الذي يعلمُ من السرِّ ما يعلَمُ من العَلانيَةِ، وبالمكانِ والزَّمانِ، سواءٌ كان المحلوفُ عليه مالاً أو غيرَه، لكنْ استُثنيَ من المالِ ما كان أقلَّ من عشرينَ ديناراً ومائتَي دِرهَمٍ.
          وفي ((الفتح)): وذهب الجمهورُ إلى وجوبِ التغليظِ، في المدينةِ عند المنبَرِ، وبمكَّةَ بين الرُّكنِ والمقامِ، وبغيرِهما بالمسجدِ الجامع، واتَّفقوا على أنَّ ذلك في الدِّماءِ والمال الكثير، لا في القليلِ، واختلفوا في حدِّ القليلِ والكثير.
          (وقَضَى) وسقطتِ الواوُ من بعضِ الأصول؛ أي: حكَمَ (مَرْوَانُ) أي: ابنُ الحكَمِ لما كان والياً على المدينةِ من قبلِ معاويةَ فيما وصله في ((الموطَّأ)) (بِالْيَمِينِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) ☺ (عَلَى الْمِنْبَرِ) أي: منبرِ المدينةِ، الجارُّ والمجرورُ الأول متعلِّقٌ بـ ((قضى)) والثاني: بـ ((اليمين)).
          (فَقَالَ) أي: زيدٌ (أَحْلِفُ) مضارعٌ، وإن صحَّ المعنى بالأمر (لَهُ مَكَانِي. فَجَعَلَ) زيدٌ (يَحْلِفُ) أي: أنَّ حقَّه لحقٌّ (وَأَبَى) أي: زيدٌ (أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ) بفتح الجيم (مِنْهُ) أي: من زيدٍ.
          وهذا التعليقُ وصله مالكٌ في ((الموطأ)) عن داود بنِ الحصينِ عن أبي غطفانَ المرِّيِّ _بضم الميم وتشديد الراء_، نسبةً إلى مُرَّةَ فبطن، قال: ((اختصمَ زيدُ بنُ ثابتٍ وأبو مُطيع _يعني: عبدَ الله_ إلى مَروانَ في دارٍ، فقضى باليمينِ على زيدِ بنِ ثابتٍ على المنبَر، فقال: / أَحلِفُ له مكاني، فقال مروانُ: لا واللهِ إلا عند مقاطِعِ الحقوقِ، فجعل زيدٌ يحلفُ أنَّ حقَّه لحقٌّ، وأبى أن يحلفَ على المنبر)).
          قال في ((الفتح)): وكأنَّ البخاريَّ احتجَّ بأنَّ امتناعَ زيدِ بنِ ثابتٍ من اليمينِ على المنبرِ يدلُّ على أنه لا يراه واجباً، والاحتجاجُ بزيد بنِ ثابتٍ أولى من الاحتجاجِ بمروانَ، وجاء عن ابنِ عمرَ نحوُ ذلك، فروى أبو عبيدٍ في كتابِ ((القضاء)) بإسنادٍ صحيحٍ عن نافعٍ: أن ابنَ عمرَ كان وصيَّ رجلٍ، فأتاه رجلٌ بصكٍّ قد درَسَتْ أسماءُ شهودِه، فقال ابن عمرَ: يا نافعُ؛ اذهَبْ به إلى المنبرِ فاستحلِفْه، فقال الرجلُ: يا ابنَ عُمرَ؛ أتريدُ أن تسمِّعَ بي الذي يسمَعُني ثم يسمَعُني هنا؟ فقال ابن عُمرَ: صدقَ، فاستحلِفْه مكانَه، قال وقد وجدتُ لمروان سلَفاً في ذلك، فأخرج الكَرابيسيُّ في أدب القضاء بسندٍ قويٍّ إلى سعيدِ بن المسيَّبِ قال: ادَّعى مدَّعٍ على آخرَ أنه اغتصبَ له بعيراً، فخاصمَه إلى عثمان، فأمره عثمانُ أن يحلِفَ عند المنبرِ، فأبى أن يحلِفَ، وقال: أحلِفُ له حيثُ شاء غيرَ المِنبَرِ، فأبى عليه عثمانُ أن لا يحلفَ إلا عند المنبرِ، فغرِمَ له بعيراً مثلَ بعيرِه ولم يحلفْ، انتهى.
          قال الإمامُ الشافعيُّ: لو لم يعرِفْ زيدٌ أنَّ اليمينَ عند المنبرِ سنَّةً لأنكرَ ذلك على مروانَ كما أنكرَ عليه مبايعةَ الصُّعلوكِ، وهو احترزَ منه تهيُّباً وتعظيماً للمنبر.
          وقال الشافعيُّ أيضاً: ورأيتُ مطرِّفاً بصنعاءَ يحلفُ على مصحَفٍ، قال: ذلك عندي حسنٌ.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم) فيما مرَّ آنفاً موصولاً في حديثِ الأشعثِ بنِ قيسٍ (شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ) وتقدم الكلامُ عليه هناك أولَ الباب.
          (فَلَمْ يَخُصَّ مَكَاناً دُونَ مَكَانٍ) من كلام المصنِّف، قاله تفقُّهاً، وفاعل ((يخُصَّ)) يرجِعُ إلى النبي عليه السَّلامُ، ولأبوي ذرٍّ والوقت: <ولم> بالواو بدلَ الفاء، واعتُرضَ على المصنِّفِ بأنَّه ترجمَ لليمينِ بعد العصر، فأثبتَ التغليظَ بالزمانِ، ونفاه هنا بالمكانِ.
          وأُجيبَ بأنَّه لا يلزَمُ من ترجمةِ اليمينِ بعد العصر تغليظُ اليمينِ بالزمان، ولم يصرِّحْ هناك بشيءٍ من إثباتٍ ولا نفيٍ، والمصنِّفُ هنا موافقٌ لأبي حنيفةَ في أنه لا يستحبُّ الاستحلافُ عند المنبرِ بالمدينةِ ولا بغيرِها، ولا عند المقامِ ونحوِه بمكة، وعند الشافعيَّة: يُستحَبُّ، وهو من التغليظ بالمكان.
          وقد روى لِما أخرجَه مالكٌ وأبو داود والنسائيُّ وابنُ أبي شيبةَ واللفظُ له، وصحَّحه ابنُ خُزيمة وابنُ حبَّان والحاكمُ عن جابرٍ مرفوعاً: ((لا يحلفُ أحدٌ عند منبَري هذا على يمينٍ آثِمةٍ ولو على سِواكٍ أخضَرَ إلَّا تبوَّأَ مقعَدَه من النار)).
          ويؤيِّدُه أيضاً ما أخرجه النسائيُّ من حديثِ أبي أُمامةَ بنِ ثعلَبةَ بسندٍ رجالُه ثقاتٌ مرفوعاً: ((مَن حلَفَ عند مِنبَري هذا بيمينٍ كاذبةٍ يستحِلُّ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناس أجمعين، لا يقبَلُ الله منه صَرْفاً ولا عَدْلاً)).
          وقال مالك: ومن أبى أن يحلِفَ عند المنبَرِ فهو كالناكلِ عن اليمين.
          وقال المهلَّبُ: وإنَّما أمرَ أن يُحلفَ في أعظَمِ موضِعٍ في المسجِدِ ليرتدع أهلُ الباطل، وهذا مُستنبَطٌ من قولِه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة:106] فخصوصُه بمكانِ التعظيم كخصوصِهِ بزمانِ التعظيم.