الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها

          ░29▒ (بابٌ) بالتنوين (لاَ يُسْأَلُ) بالبناء للمفعول (أَهْلُ الشِّرْكِ) أي: المشركون، والمرادُ: مُطلَقُ الكفَّار (عَنِ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا) أي: ولا عن غيرِها كالتزكية؛ أي: لأنَّهم لا تُقبَلُ شهادتُهم.
          قال في ((الفتح)): هذه الترجمةُ معقودةٌ لبيان حُكمِ شهادةِ الكفَّار، وقد اختلَفَ السَّلفُ في ذلك على ثلاثةِ أقوالٍ: فذهب الجمهورُ إلى ردِّها مُطلَقاً، وذهب بعض التابعين إلى قَبولِها مُطلَقاً، إلا على المسلمين، وهو مذهبُ الكوفيِّين، فقالوا: تُقبَلُ شهادةُ بعضِهم على بعضٍ، وهي إحدى الروايتَين عن أحمدَ، وأنكَرَها بعضُ أصحابِه، واستثنى أحمدُ حالةَ السفر، فأجازَ فيها شهادةَ أهلِ الكتاب، كما سيأتي في آخرِ الوصايا.
          وقال الحسَنُ وابنُ أبي ليلى والليثُ وإسحاقُ: لا تُقبَلُ شهادةُ مِلَّةٍ على مِلَّة، وتُقبَلُ بعضُ المِلَّةِ على بعضِها؛ لقولِه تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] وهذا أعدلُ الأقوال؛ لبُعدِه عن التُّهمةِ، واحتجَّ الجمهورُ بقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] وبغيرِ ذلك من الآيات والأحاديث، انتهى.
          وقال العينيُّ كابنِ الملقِّنِ تَبعاً لابن بطَّالٍ: فعند الجمهورِ لا تقبلُ شهادتُهم مُطلقاً، ومنهم من أجازَ شهادةَ أهلِ الكتاب بعضهم على بعضٍ للمسلمين، وهو قولُ إبراهيمَ، ومنهم من أجازَ شهادةَ أهلِ الشركِ بعضِهم على بعضٍ، وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ والشعبيِّ ونافعٍ وحمَّادٍ ووكيعٍ.
          وبه قال أبو حنيفةَ، ومنهم مَن قال: لا يجوزُ شهادةُ أهل ملَّةٍ إلا على ملَّتِها، وهو قول الزهريِّ والضَّحاكِ والحكمِ وابنِ أبي ليلى وعطاءٍ وأبي سلمةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وأبي ثورٍ، ورُوي عن شريحٍ والنخعيِّ أنه يجوزُ شهادتُهم على المسلمين في الوصيَّةِ والسفر للضرورة، وبه قال الأوزاعيُّ، انتهى.
          ويستفادُ من كلامِه الزيادةُ على ثلاثةِ أقوالٍ، وما نقلَه عن الشافعيِّ لعلَّه قولٌ له، وإلا فالمقرَّرُ في مذهبِه عدَمُ قَبولُ شهادةِ الكفارِ مطلقاً.
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة، وهو عامرُ بنُ شُراحيلَ، مما وصلَه سعيدُ بنُ منصورٍ (لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْمِلَلِ) بكسر الميم، جمعُ: ملَّةٍ، والمرادُ: ملَلُ الكفر، وإلا فالمسلمون تجوزُ شهادتُهم حتى على الكفَّار.
          (بَعْضِهِمْ) بالجرِّ، بدلٌ من ((أهلِ)) باعتبار لفظِهِ، وفي بعض الأصولِ ضبطَه بالرَّفعِ على أنه بدَلٌ من ((أهل)) باعتبارِ محلِّه؛ لأنه فاعلُ المصدر.
          (عَلَى بَعْضٍ) متعلِّقٌ بـ((شهادة)) أي: وأما أهلُ الملَّةِ الواحدة، فتُقبَلُ شهادةُ بعضِهم على بعضٍ عنده كما مرَّ عنه، لكن في ((الفتح)) و((العمدة)) هنا ما حاصِلُه: روى عبدُ الرزَّاقِ بسندِه عن الشعبيِّ أنه: ((كان يجيزُ شهادةَ اليهوديِّ على النَّصرانيِّ، وبالعكس)).
          وفي ((مصنَّفِ ابنِ أبي شيبة)) نقلاً عنه أيضاً أنه قال: ((تجوزُ شهادةُ أهلِ الملَلِ للمُسلِمينَ بعضِهم على بعضٍ)) فاختلفَ النقلُ عن الشعبيِّ، لكنِ الأصحُّ ما في المتن.
          ثم استدلَّ الشعبيُّ لِما مالَ إليه فقال: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) ولأبي ذرٍّ: <╡> ({فَأَغْرَيْنَا}) أي: فألصَقْنا، مِن: أغرى بالشَّيءِ: ألصَقَ به غيرَه، ومنه الغِراءُ المعروفُ، ولعلَّ هذا أَولى من قولِ البيضاويِّ: فألزَمْنا، مِن: غَرى بالشَّيءِ: لَصِقَ به، انتهى، فتأمَّلْ.
          ({بَيْنَهُمُ}) متعلِّقٌ بـ {أغرينا} وضميرُه لمَن كفَرَ في قولِه قبلَه: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [المائدة:12] وقال البيضاويُّ: أي: بين فِرَقِ النَّصارى، وهم نَسْطُوريَّةُ ويَعْقوبيَّةُ ومَلْكانيةُ؛ أي: بينهم وبين اليهود، فكلُّ فِرقةٍ تكفِّرُ الأخرى.
          {الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} مفعولُ {أغرينا} ومعطوفٌ عليه، وانظر عطفَ {البغضاء} على {العداوة}.
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ☺) مما وصله المصنِّفُ في تفسيرِ سورةِ البقرة، وله قصَّةٌ ستأتي هناك إن شاء الله.
          (عَنِ النَّبِيِّ صلعم: لاَ تُصَدِّقُوا) بضم الفوقية أولَه، من التصديق، ضدِّ: التكذيب (أَهْلَ الْكِتَابِ) أي: فغيرُهم من الكفارِ من بابِ أَولى / .
          (وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ) من التكذيب؛ أي: فيما لا تعلمونَ صدقَهم أو كَذِبَهم فيه من غيرِهم.
          قال في ((الفتح)): والغرضُ منه النَّهيُ عن تصديقِ أهلِ الكتاب فيما لا يُعرَفُ صدقُه من قِبَلِ غيرِهم، فيدلُّ على ردِّ شهادتِهم وعدمِ قَبولِها كما يقول الجمهور، انتهى. وفيه المُطابَقةُ.
          وجملةُ: (وَقُولُوا {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا...} الآيَةَ) معطوفةٌ على ((لا تصدِّقوهم)) وسقط قولُه: ((الآيةَ)) لأبوَي ذرٍّ والوقتِ، لكنا نتكلَّمُ عليها لثبوتِها لغيرِهما، فنقول: هذه الآيةُ في سورةِ البقرة، والخطابُ فيها _كما قال البيضاويُّ_ للمؤمنين، لقوله: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة:137] وقولِه: {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} يعني: القُرآنَ، وقدَّمَ ذكرَه؛ لأنَّه أولُ بالإضافة إلينا، أو سببٌ للإيمانِ بغيرِه، وقدَّمَ عليه الإيمانَ بالله؛ لأنَّه الأصلُ الذي لا يُعتَدُّ بفعلٍ إلا معه.
          وقوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} عطفٌ على ما قبلَه، وهي الصُّحفُ العَشَرةُ التي أنزلَها اللهُ تعالى عليه.
          {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} هما ابنا إبراهيمَ لصُلبِه عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولعلَّه قدَّمَ إسماعيلَ لأنه أكبرُ، أو أفضلُ من إسحاقَ {وَيَعْقُوبَ} هو ابنُ إسحاقَ.
          {وَالْأَسْبَاطِ} وظاهرُ الآيةِ يقتضي أنه أَنزَلَ إلى جميعِ مَن ذكَرَ كتُباً استقلالاً، لكنه ليس بمُرادٍ، فقد قال البيضاويُّ في تفسيرِ قولِه تعالى في حقِّ إسماعيلَ في سورةِ مريمَ: {وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} [مريم:51] هذا يدُلُّ على أنَّ الرسولَ لا يلزَمُ أن يكونَ صاحبَ شريعةٍ، فإنَّ أولادَ إبراهيمَ كانوا على شريعتِه، وقال هنا: والصُحُفُ وإن نزَلَتْ إلى إبراهيمَ، لكنهم _أي: مَن بعدَه ممَّن ذكَرَ_ لمَّا كانوا متعبَّدين بتفصيلِها، داخِلين تحتَ أحكامِها، فهي أيضاً مُنزَلةٌ إليهم، كما أنَّ القُرآنَ إلينا، قال: والأسباطُ: جمعُ: سِبْطٍ، وهو الحافِدُ، يريدُ به حفَدةَ يعقوبَ، أو أبناءَه وذرارِيْهم، فإنَّهم حفَدةُ إبراهيمَ وإسحاقَ.
          {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} أي: التَّوراةَ والإنجيلَ، وأفردَهما بالذِّكرِ بحُكمٍ أبلَغَ؛ لأنَّ أمرَهما بالإضافةِ إلى {مُوسَى} و{عِيسَى} مُغايِرٌ لما سبق، والنزاعُ وقع فيهما {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} أي: جُملتُهم من ذَكَرَ ومَنْ لم يذكُرْ منهم {مِنْ رَبِّهِمْ} متعلِّقٌ بـ{أوتي} أو بمحذوفٍ؛ أي: مُنزَلاً عليهم من ربِّهم.
          {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} لا كاليهود، فنؤمِنُ ببعضٍ ونكفُرُ ببعضٍ، واحدٌ عامٌّ لكلِّ الأنبياء؛ لوقوعِهِ في سياقِ النَّفي، فجاز أن يُضافَ إليه: ((بين)).
          وجملةُ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} حاليةٌ؛ أي: والحالُ أنَّا مُذعِنونَ لله تعالى.