الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم

           ░7▒ (باب الشَّهَادَةِ عَلَى الأَنْسَابِ) جمع: نَسَبٍ _بفتح النون والسين_ كسَبَبٍ وأسبابٍ (وَالرَّضَاعِ) / بفتح الراء، وقد تُكسَر، ومثلُه: الرَّضاعةُ، عطفٌ على ((الأنساب)) (الْمُسْتَفِيضِ) نعتُ ((الرَّضاع)) أي: الشائعُ، ومثلُ هذا القيد معتبَرٌ في الأنسابِ؛ أي: المستفيضةِ، فتجوزُ الشَّهادةُ فيها اعتماداً على الاستفاضَةِ.
          (وَالْمَوْتِ الْقَدِيمِ) أي: الذي سبقَ له زمانٌ تطاولَ عهدُه، فيشهدُ فيه بالاستفاضة، ولذا قال في ((الفتح)): هذه الترجمةُ معقودةٌ لشهادةِ الاستفاضة، واحتَرزَ بـ ((القديم)) عن الحادث، وقد حدَّ بعضُ المالكيَّةِ القديم بخمسين سنةً، وقيل: بأربعين سنةً.
          قال ابنُ الملقِّن: يجوزُ عند مالكٍ والكوفيِّينَ والشافعيِّ الشهادةُ بالسماعِ المستفيضِ في النسبِ والموتِ القديم، والنِّكاحِ دون الطلاق، ويجوزُ عند مالكٍ والشافعيِّ الشهادةُ على ملكِ الدارِ بالسَّماع، لكنْ شرطُه عند مالكٍ أن يكثُرَ عددُ السِّنين، لا خمسُ سنينَ ونحوُها.
          (وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ) بنصب ((أبا)) عطفاً على ضمير المفعول، وأبو سلَمةَ _بفتحات_؛ ابنُ عبدِ الأسدِ المخزوميُّ، زوجُ أمِّ سلمةَ سابقاً، أسلمَ وهاجرَ إلى المدينة مع زوجتِه أمِّ سلمةَ، توفِّي سنةَ أربعٍ من الهجرة، وقيل: سنةَ اثنتين، فتزوَّجَها رسولُ الله صلعم.
          وقوله: (ثُوَيْبَةُ) فاعل ((أرضعَتْني)) وهي بمثلثة مضمومة وواو فياء تصغير فموحدة فهاء تأنيث، كانت مَولاةً لأبي لهبٍ، فأعتقَها حين بشَّروه بولادةِ النبيِّ صلعم، قاله الكرمانيُّ واختُلفَ في إسلامِها، وقال الذهبيُّ في ((التجريد)) يقال: أسلمَتْ.
          وهذا التعليقُ وصله البخاريُّ في الرضاعِ من حديثِ أمِّ حبيبةَ زوجةِ رسولِ الله صلعم.
          (وَالتَّثَبُّتِ فِيهِ) بالجرِّ عطفاً على الشهادة، وفي بعضِ الأصُول: بالرفع؛ أي: عطفاً على ((باب)) أو مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ، والأولى تقديمُه على الحديث؛ لأنه من جُملةِ الترجمة، لكن قال شيخُ الإسلام: وكثيراً ما يفعلُ البخاريُّ مثلَه، فيعطفُ ترجمةً على أخرى، وإن فصلَ بينهما بكلامٍ آخرَ، انتهى.
          أي: وبابُ التثبُّتِ في الرَّضاعِ احتياطاً، وكأنه أشار _كما في ((الفتح))_ للحديثِ الآتي في آخرِ أحاديثِ الباب.
          وفيه: قال: ((يا عائشةُ؛ انظُرنَ من أخواتُكنَّ، فإنَّما الرَّضاعةُ من المجاعة)).
          تنبيه: قال في ((الفتح)): واختلف العلماءُ في ضابطِ ما تقبَلُ فيه الشهادةُ بالاستفاضة، فتصحُّ عند الشافعيَّة في النسبِ قطعاً والولادةِ، وفي الموتِ والعتقِ والولاءِ والوقفِ والولايةِ والعَزْلِ، والنِّكاحِ وتوابِعِه، والتعديلِ والتجريحِ، والوصيَّةِ، والرُّشدِ والسَّفهِ، والمِلكِ على الراجحِ في ذلك، قال: وبلَّغَها بعضُ المتأخرين من الشافعية بضعةً وعشرين، وهي مُستوفاةٌ في ((قواعد العلائيِّ)).
          قال: وعن أبي حنيفة: تجوزُ في النَّسَبِ والموتِ والنِّكاح والدُّخولِ وكونِه قاضياً، زاد أبو يوسُفَ: والولاءِ، وزاد محمَّدٌ: والوقفِ.
          قال في ((الهداية)): وإنَّما أُجيزَت استحساناً، وإلا: فالأصلُ أنَّ الشهادةَ لا بدَّ فيها من المشاهدة، وشَرطُ قبولِها أن يسمَعَها من جمعٍ يؤمَنُ تواطؤهم على الكذب، فقيل: أقلُّه أربعةٌ، وقيل: اثنان، وقيل: واحدٌ إذا سكَنَ القلبُ إليه انتهى.
          وقال شيخُ الإسلام في ((شرح منهجه)): وصورةُ الشهادةِ بالتَّسامعِ أن يقول: أشهدُ أنَّ هذا ولدُ فلانٍ أو عتيقُه مثلاً، ثم قال: ولو تسامَعَ بسببِ المِلكِ كبيعٍ وهِبةٍ ومِلكٍ لم تجزِ الشَّهادةُ بالتسامُعِ، ولو مع الملكِ، إلا أن يكون النَّسبُ إرثاً، فتجوزُ، انتهى ملخَّصاً.
          وبه تعلمُ ما في إطلاق ((الفتح))، فتأمَّل.