الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب شهادة القاذف والسارق والزاني

          ░8▒ (بابُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي) / أي: بابُ بيان حُكمِ شهادةِ هؤلاءِ؛ هل تقبَلُ بعد توبتِهم أم لا؟ ولم يبُتَّ الحكمَ؛ للخِلافِ فيه كما سيأتي بالنِّسبة للقاذف.
          قال في ((الفتح)): جمعَ البخاريُّ في الترجمة بين السارق والقاذفِ إشارةً إلى أنه لا فرقَ في قبولِ التَّوبةِ منهما، وإلَّا: فقد نقلَ الطَّحاويُّ الإجماعَ على قبولِ شهادةِ السارقِ إذا تاب.
          نعم؛ ذهب الأوزاعيُّ إلى أنَّ المحدودَ في الخمرِ لا تقبَلُ شهادتُه وإن تاب، ووافقه الحسنُ بنُ صالحٍ، وخالف في ذلكِ جميعَ فقهاءِ الأمصارِ، انتهى.
          والقاذفُ _بالقاف وكسر الذال المعجمة وبالفاء_ اسمُ فاعلٍ من: قذَفَ _من بابِ: ضَرَبَ_؛ رمى غيرَه بالزِّنا، والسارقُ والزاني: ماضيهما أيضاً من باب: ضَرَبَ، ومعناهما ظاهرٌ.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجر، ويجوزُ الرَّفعُ، ولأبي ذرٍّ: <╡> وفي بعض النُّسخ: <وقولِه ╡> ({وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور:4]) هذه الآيةُ في أوائل سورةِ النورِ، وأولُها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} [النور:4] أي: ولا تقبلوا؛ أي: أيُّها الحُكَّامُ للذين يرمونَ المحصَناتِ؛ أي: يقذفونَهنَّ بالزِّنا، ومثلُهنَّ الرِّجالُ المحصَنونُ، بخلافِ غيرِ المحصَنين، ففي قذفهمُ التَّعزيرُ.
          وقوله: {شهادة} قال البيضاويُّ: أيَّ شهادةً كانت؛ لأنه مفتَرٍ، وقيل: شهادتُهم في القذفِ، ولا يتوقَّفُ ذلك على استيفاءِ الجلدِ، خلافاً لأبي حنيفةَ، فإنَّ الأمرَ بالجلدِ والنهيَ عن القبولِ سيَّانِ في وقوعِهما جواباً للشَّرطِ لا ترتيبَ بينهما، فيترتبانِ عليه دفعةً، كيف وحالُه قبلَ الجلدِ أسوأُ مما بعدَه.
          ({أَبَداً}) أي: ما لم يتُبْ، وعند أبي حنيفةَ: إلى آخرِ عمُرِه ({وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}) أي: المحكومُ بفِسقِهم ({إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}) أي: عن القذفِ، فإنَّ شهادتَهم مقبولةٌ بعد توبتهم بشُروطِها.
          ومنها: الاستسلامُ للحدِّ، والاستحلالُ من المقذوف، قال العينيُّ: هذا الاستثناءُ منقطعٌ؛ لأنَّ التائبين غيرُ داخلين في {الْفَاسِقُونَ} وقال البيضاويُّ: والاستثناءُ راجعٌ إلى أصلِ الحكمِ؛ وهو اقتضاءُ الشرطِ لهذه الأمورِ، ولا يلزمُ سقوطُ الحدِّ به كما قيل؛ لأنَّ من تمامِ التوبةِ الاستسلامُ له أو الاستحلالُ، ومحلُّ المستثنى النَّصبُ على الاستثناء، وقيل: إلى النهي، ومحلُّه الجَرُّ على البدَلِ من: هم في {لهم}، وقيل: إلى الأخيرةِ، ومحلُّه النَّصبُ؛ لأنَّه مُوجِبٌ، وقيل: منقطعٌ متَّصلٌ بما بعده، انتهى.
          وقال شيخُ الإسلام: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي: ما لم يتوبوا، بقرينةِ الاستثناءِ بعدَه، بناءً على أنه يرجعُ إلى جميعِ الجملِ قبله، وهو ما عليه الشافعيَّةُ وكثيرٌ، كما هو محرَّرٌ في الأصول.
          وقال بعضُ الحنفية: لا تُقبلُ شهادتُه مدَّةَ عمُرِه كما ذكرَه بعدُ، بناءً منهم على أنَّ الاستثناءَ إنَّما يرجِعُ إلى الجُملةِ الأخيرة، انتهى.
          قال السُّبكيُّ في ((جمع الجوامع)): والاستثناءُ الواردُ بعد جُملٍ متعاطفةٍ عائدٌ للكلِّ حيثُ صلحَ له، وقيل: إنْ سيقَ الكُلُّ لغَرضٍ واحدٍ، وقيل: إن عطَفَ بالواو، وقال أبو حنيفةَ والإمام الرازيُّ: للجملة الأخيرة فقط، وقيل: بالوقفِ، انتهى، فاعرِفْه.
          وقال في ((فتح الباري)): وهذا الاستثناءُ عُمدةُ مَن أجاز شهادتَه إذا تابَ، وقد أخرجَ البيهقيُّ من طريق عليِّ بنِ أبي طلحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ في قولِه تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فمَن تابَ؛ فشهادتُه في كتابِ الله تقبلُ.
          وبهذا قال الجمهورُ: إنَّ شهادةَ القاذفِ بعد التوبة تُقبَلُ، ويزولُ عنه اسمُ الفسقِ، سواءٌ كان بعد إقامةِ الحدِّ أو قبلَه، وتأوَّلوا / قوله تعالى: {أبدا} على أنَّ المرادَ ما دامَ مُصِرًّا على قَذفِه؛ لأنَّ أبدَ كلِّ شيءٍ على ما يليقُ به، كما لو قيل: لا تقبَلُ شهادةُ الكافرِ أبداً، فإنَّ المرادَ: ما دامَ كافراً، وبالغ الشعبيُّ، فقال: إذا تاب القاذفُ قبلَ إقامة الحدِّ سقطَ عنه.
          وذهب الحنفيةُ إلى أنَّ الاستثناءَ يتعلَّقُ بالفسق خاصَّةً، فإذا تاب سقط عنه اسمُ الفسقِ، وأما شهادتُه فلا تُقبلُ أبداً، وقال بذلك بعضُ التابعين، وفيه مذهبٌ آخرُ: يقبلُ بعد الحدِّ لا قبلَه.
          وعن الحنفية: لا تُردُّ شهادتُه حتى يحدَّ، وتعقَّبه الشافعيُّ بأنَّ الحدود كفَّارةٌ لأهلها، فهو بعد الحدِّ خيرٌ منه قبله، فكيف تردُّ في خيرِ حالتَيه وتقبلُ في شرِّهما؟
          وقال العينيُّ: لا تقبَلُ شهادتُه عند الحنفيَّة؛ لأنَّ ردَّ الشهادةِ من تتمَّةِ الحدِّ؛ لأنه يصلُحُ خبراً.
          وأما قولُه: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} فلا يصلُحُ خبراً؛ لأنه ليسَ بخطابٍ للأئمَّة، بل هو إخبارٌ عن صفةٍ قائمةٍ بالقلوبِ، وما قبله جملةٌ إنشائيةٌ تصلُحُ أن تكونَ خطاباً للأئمَّةِ، انتهى.
          وفيه: أنَّه صرَّحَ في ((الكشاف)) بأنَّ قولَه: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في معنى الإنشاء، كأنه قيل: وفسَقوا؛ أي: احكُموا بالفسقِ عليهم، انتهى ملخصاً.
          وأطالَ من الكلامِ على الآيةِ مع حُسِن الصَّنيعِ وكثرةِ الفوائدِ.
          (وَجَلَدَ عُمَرُ) أي: ابنُ الخطَّابِ ☺ ممَّا وصلهُ الشافعيُّ في ((الأم)) عن سفيان قال: سمعتُ الزهريَّ يقول: زعمَ أهلُ العراقِ أنَّ شهادةَ المحدودِ لا تُقبَلُ، فأشهدُ لأخبَرَني فلانٌ أنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ قال لأبي بكرةَ: تُبْ وأقبَلْ شهادتَك، قال سفيانُ: سمَّى الزهريُّ الذي أخبرَه، فحفظتُه ثم نسيتُه، فقال لي عمرُ بن قيسٍ: هو ابنُ المسيَّبِ.
          (أَبَا بَكْرَةَ) هو نُفيعٌ _بالتصغير_ ابنُ الحارثِ بنِ كِلْدةَ _بالكاف واللام والمهملة المفتوحات_، الصَّحابيُّ (وَشِبْلَ) بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة (ابْنَ مَعْبَدٍ) بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الموحدة؛ أي: ابنِ عُبيد بنِ الحارثِ البجليِّ، أخا أبي بكرةَ لأمِّه سُميَّةَ، وهو معدودٌ في المخضْرَمين.
          (وَنَافِعاً) هو: ابنُ الحارثِ أخو أبي بكرةَ لأمِّه أيضاً، كذا في القسطلانيِّ، لكن قال الكرمانيُّ: شبلٌ أخو أبي بكرةَ لأمِّه، ونافعٌ والحارثُ أخَوا أبي بَكْرةَ لأبيه وأمِّه، والثلاثةُ الإخوةُ صحابيُّون شَهِدوا مع أخٍ آخرَ لأبي بكرةَ لأمِّه اسمُه: زيادٌ _بتخفيف التحتية_ على المغيرةَ بنِ شعبةَ بالزِّنا، لكن لم يجزِمْ زيادٌ بالشهادةِ بحقيقةِ الزِّنا، فلم يثبُتْ، فلم يحدَّ المغيرةُ، وحدَّ الثلاثة، واسمُ أمِّهم: سميَّةُ _بضم المهملة وفتح الميم وتشديد التحتية_، وزيادٌ ليس له صُحبةٌ ولا روايةٌ، وكان من دُهاةِ العرب وفُصحائهم، ماتَ سنةَ ثلاثٍ وخمسين، انتهى.
          (بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ) أي: ابنِ شعبةَ ☺، وكان أميرَ البصرةِ لعمرَ ☺، لمَّا رأَوه على ما نسَبوا إليه وكان معهم أخوهم لأمِّهم زيادُ بنُ أبي سفيانَ متبطِّنَ الرَّقطاءِ أمِّ جميلٍ بنتِ عمرٍو الأفقمِ الهلاليةُ زوجُ الحجَّاجِ بنِ عتيكِ بنِ الحارثِ بن عوفٍ الجُشميِّ، فرحلوا إلى عمرَ، فشكوه، فعزَلَه وولَّى أبا موسى الأشعريَّ، وأحضرَ المغيرةَ، فشهِدَ عليه الثلاثةُ بالزِّنا، ولم يُثبتْ زيادٌ الشَّهادةَ، وقال: رأيتُ منظراً قبيحاً، وما أدري ما وراءَ ذلك، فأمر عمرُ بجَلدِ الشُّهداءِ الثَّلاثةِ حدَّ القَذْفِ.
          (ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ) أي: استتاب عمرُ الثلاثةَ المذكورين دون الرَّابع؛ لأنَّ قولَه / ليس بقَذفٍ، فتابا غيرَ أبي بَكْرةَ، فصاروا يقبَلونَ شهادتَهما.
          (وَقَالَ) أي: عمرُ ☺ (مَنْ تَابَ قَبِلْتُ) بضم التاء (شَهَادَتَهُ) بنصبِ ((شهادتَه)) وفي بعض الأصولِ الصَّحيحةِ ضبطَه: <قُبِلَتْ> بالبناء للمفعول وسكون التاء، ورفع <شهادتُه> نائبُ فاعله.
          ووجهُ مُطابقةِ قولِ عمرَ المذكورِ للترجمة أنه قاله بحضرةِ الصَّحابة، ولو كان تأويلُ الآية كما أوَّلَها الكوفيُّونَ لم يسكُتوا، ولقالوا لعمرَ: لا يجوزُ قَبولُ شهادةِ القاذف، قاله الكرمانيُّ وغيرُه، وقد نقل في ((المصابيح)) القصَّةَ متَّصلةً عن المحبِّ الطبريِّ، وقال فيها: إنَّ المغيرةَ حلفَ أنها زوجتُه، وأنها تُشبهُ هذه المرأةَ.
          (وَأَجَازَهُ) أي: الحكمَ المذكورَ، وهو قَبولُ شهادةِ المحدودِ بالقذف (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ) بضم العين وسكون المثناة الفوقية، ابنِ مسعودٍ فيما وصلَه الطبريُّ من طريقِ عِمرانَ بنِ عُمَيرٍ عنه (وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أي: الخليفةُ المشهورُ فيما وصلَه الطبريُّ أيضاً من طريق عِمرانَ بنِ عُميرٍ عنه، ووصلَه الخلَّالُ أيضاً من طريقِ ابنِ جريجٍ عن عِمرانَ بنِ موسى عنه.
          (وَسَعِيدُ بن جُبَيرٍ) أي: التابعيُّ المشهورُ فيما وصله البغويُّ في ((الجَعْديَّات)) والطبريُّ من طريقِه.
          (وَطَاوُسٌ) هو ابنُ كيسانَ (وَمُجَاهِدٌ) هو ابنُ جبرٍ فيما وصله عنهما سعيدُ بنُ منصورٍ والشافعيُّ والطبريُّ (وَالشَّعْبِيُّ) هو عامرُ بن شُراحيلَ، فيما وصله الطبريُّ بسنده عنه (وَعِكْرِمَةُ) أي: مولى ابنِ عبَّاسٍ فيما وصله البغويُّ في ((الجعديَّاتِ)) عن شعبةَ عن يونسَ، هو: ابنُ عُبيدٍ.
          (وَالزُّهْرِيُّ) أي: محمد بنُ مسلمٍ بنِ شهابٍ فيما وصله ابنُ جريرٍ عنه (وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ) بكسر الدال وبالمثلثة، و((مُحارِبُ)) بضم الميم وبعد الحاء المهملة ألفٌ فراء مكسورة آخره موحدة، الكوفيُّ، قاضي الكوفة.
          (وَشُرَيْحٌ) أي: القاضي (وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ) أي: ابنِ قيسٍ فيما قاله العينيُّ، لكن قال ابنُ حجرٍ: لم أرَ عن أحدٍ من الثلاثةِ الأخيرةِ التصريحَ بالقبول.
          (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ) أي: عبدُ الله بنُ ذكوانَ المدنيُّ المشهورُ، فيما وصله سعيدُ بنُ منصورٍ (الأَمْرُ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ) أي: مدينةِ رسول الله صلعم (إِذَا رَجَعَ الْقَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) أي: خلافاً للحنفية كما مرَّ (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ) أي: عامرُ بنُ شراحيلَ (وَقَتَادَةُ) فيما وصله الطبريُّ عنهما مفرَّقاً (إِذَا أَكْذَبَ) أي: القاذفُ (نَفْسَهُ جُلِدَ) أي: حدَّ القذفِ (وَقُبِلَتْ) ببنائه للمفعول كـ ((جُلِدَ)) (شَهَادَتُهُ) أي: لقولِه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:6] وقد سأل ابنُ المنيِّرِ فقال: إن كان صادقاً في قذفه فممَّ يتوبُ إذاً؟ وأجاب بأنَّه يتوبُ من الهتكِ ومن التحدُّثِ بما رآه.
          ويحتملُ أن يقالَ بأنَّ المعاينَ للفاحشةِ مأمورٌ بأنْ لا يكشفَ صاحبَها، إلا إذا تحقَّقَ كمالُ النِّصابِ معه، فإذا كشفَ قبلَ ذلك عصى، فيتوبُ من المعصيةِ في الإعلان، لا من الصِّدقِ في علمِه.
          وتعقَّبَه في ((الفتح)) بأنَّ أبا بكرةَ لم يكشفْ حتى تحقَّقَ كمالُ النِّصاب، ومع ذلك أمرَه عمرُ بالتَّوبةِ لتُقبلَ شهادتُه، قال: ويجابُ عن ذلك بأنَّ عمرَ لعلَّه لم يطَّلعْ على ذلك، فأمرَ بالتَّوبة، ولذلك لم يقبَلْ منه أبو بكرةَ ما أمَره به؛ لعلمِهِ بصدقِه عند نفسِه، انتهى.
          وقد روى الحاكمُ في ((المستدرك)) القصَّةَ مطوَّلةً، وفيها: ((فقال زيادٌ: رأيتُهما في لِحافٍ، وسمعتُ نفَساً عالياً، ولا أدري ما وراءَ ذلك)).
          قال في ((الفتح)): وقد حكى الإسماعيليُّ في ((المدخل)) أنَّ بعضَهم استشكلَ إخراج البخاريِّ هذه القصَّةَ واحتجاجَه بها مع كونِه احتجَّ بحديثِ أبي بكرةَ في مواضعَ.
          وأجاب / الإسماعيليُّ بالفرقِ بين الشهادةِ والرِّواية؛ فإنَّ الشَّهادةَ يطلبُ فيها مزيدُ تثبُّتٍ لا يطلبُ في الرِّوايةِ؛ كالعددِ والحرِّيةِ وغيرِ ذلك.
          واستنبط المهلَّبُ من هذا أنَّ إكذابَ القاذفِ نفسَه ليس شرطاً في قبولِ توبتِه؛ لأنَّ أبا بَكْرةَ لم يكذِّبْ نفسَه، ومع ذلك فقد قبلَ المسلمون روايتَه وعَمِلوا بها، انتهى.
          وروى أبو داود الطَّيالسيُّ: حدَّثنا قيسُ بنُ سالمٍ الأفطسُ، عن قيسِ بن عاصمٍ، قال: كان أبو بكرةَ إذا أتاه رجلٌ ليُشهدَه قال: أشهِدْ غيري؛ فإنَّ المسلمين قد فسَّقوني، كذا في ((التوضيح)) و((العمدة)).
          (وَقَالَ الثَّوْرِيُّ) أي: سفيانُ مما هو في ((جامعه)): روايةُ عبدِ الله بنِ الوليدِ العدنيِّ عنه (إِذَا جُلِدَ الْعَبْدُ) برفع ((العبدُ)) نائبُ فاعلِ: ((جُلدَ)) (ثُمَّ أُعْتِقَ) بضم الهمزة (جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنِ اسْتُقْضِيَ الْمَحْدُودُ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: وإنْ طلَبَ منه الحكام أنْ يقضيَ بين خصمَين.
          (فَقَضَايَاهُ) أي: أحكامُه (جَائِزَةٌ) أي: صحيحةٌ نافذةٌ، وهذا شاملٌ للعبدِ الذي أُعتقَ بعد جلدِه، وللحُرِّ الأصليِّ، والجملةُ الثانيةُ معطوفةٌ على الأولى، فهي من مقولِ الثوريِّ، لكن يأتي عنه قريباً أنَّه لا يقبَلُ شهادةَ القاذفِ وإن تابَ، فلعلَّه يفرِّقُ بين العبدِ المذكورِ وبين غيره، ويحتملُ أنَّ له قولين، فتدبَّر.
          (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) يعني: أبا حنيفةَ ☺ (لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ، وَإِنْ تَابَ) أي: عن القذفِ؛ لقولِه تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] والأحاديثُ بخلافِ السَّارقِ والزاني، فإنهما إذا تابا تقبلُ شهادتُهما عند أبي حنيفةَ وغيرِه.
          وقال في ((الفتح)): هذا منقولٌ عن الحنفيَّة، واحتجُّوا في ردِّ شهادةِ المحدودِ بأحاديثَ، قال الحفَّاظ: لا يصِحُّ منها شيءٌ، وأشهَرُها: حديثُ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه مرفوعاً: ((لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنةٍ ولا محدودٍ في الإسلام)) أخرجَه أبو داود وابنُ ماجه، ورواه الترمذيُّ عن عائشةَ بنحوِه.
          وقال: لا يصحُّ، وقال أبو زرعةَ: منكرٌ، وروى عبدُ الرزاق، عن الثوريِّ، عن واصلٍ، عن إبراهيمَ، قال: لا تُقبَلُ شهادةُ القاذفِ، توبتُه فيما بينه وبين اللهِ تعالى، قال الثوريُّ: ونحن على ذلك، وأخرجَ عبدُ الرزاق من روايةِ عطاءٍ الخراسانيِّ عن ابن عبَّاسٍ نحوَه، وهو منقطعٌ، ولم يصبْ من قال: إنَّ سندَه قويٌّ، انتهى ما في ((الفتح)).
          وقولُ العينيِّ: لمَّا أخرجَه أبو داودَ سكتَ عنه، وهذا دليلٌ لصحَّته عنده، انتهى.
          فيه أنَّ الحُفَّاظَ _كما نقل الحافِظُ عنهم_ صرَّحوا بعدَمِ صحَّة شيءٍ من الأحاديثِ الواردةِ في ذلك، وهذا منها، وقال العينيُّ أيضاً: أراد البخاريُّ ببعضِ الناسِ أبا حنيفةَ فيما ذهب إليه، لكنَّ هذا لا يمشي ولا يبرُدُ به قلبُ المتعصِّب، فإنَّ أبا حنيفةَ مسبوقٌ بهذا القول، وليس هو بمختَرِعٍ له، وقد ذكرنا قريباً عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ نحوه، وعن جماعةٍ من التابعين، وقد ذكرناهم.
          (ثُمَّ قَالَ) أي: بعضُ الناس المذكورُ (لاَ يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ) أي: في قذفٍ (جَازَ) أي: النِّكاحُ، وعلَّلوه بأنَّهما أهلُ الشهادةِ تحمَّلا، وعدمُ قبولِها عند الأداء لا يمنَعُ تحقُّقَها؛ إذ الأداءُ من ثمَراتِها، وفواتُ الثمرةِ لا يدلُّ على فواتِ الأصل، وانعقادُ النِّكاحِ موقوفٌ على حضورِ الشاهدين، لا على أدائهما الشَّهادةَ، فتأمَّل.
          لكن في الحقائقِ / من كتُبهم أنَّ محلَّ الخلافِ في المحدودينِ قبلَ ظهورِ التوبة؛ إذ بعدَه ينعقدُ إجماعاً، وقال شيخُ الإسلام: قوله: ((وقال بعضُ الناس)) أي: بعضُ الحنفيَّة، ثم قال: أي البعضُ المذكورُ: ((لا يجوز...)) إلخ، قيل: غرضُ البُخاريِّ منه بيانُ تناقُضِ قولِ البعضِ المذكورِ، حيثُ منعوا شهادةَ القاذفِ بعد توبته، وجوَّزوا النِّكاحَ بشهادته، قال: وبيانُ تحكُّمهم حيثُ منعوا شهادةَ العبد وجوَّزوا شهادةَ المحدودِ بالزِّنا والسَّرقةِ والخمرِ مع أنَّهما ناقصان، وحيثُ جوَّزوا شهادةَ المحدود ومنَعوا شهادةَ القاذف المحدودِ وإن تابَ، انتهى.
          وهذا حاصلُ كلام الكرمانيِّ تبعاً لابن بطَّالٍ.
          (وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ) أي: لأنَّ الشَّهادةَ من باب الولاية؛ لكونها نافذةً على الغَيرِ، رضيَ أو لم يرضَ، والعبدُ ليس من أهل الولايةِ (وَأَجَازَ) أي: بعضُ الناس المذكورُ (شَهَادَةَ العبد والمحدود) أي: في قذفٍ بعد التَّوبة (وَالأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلاَلِ رَمَضَانَ) أي: لجرَيانِه مجرى الخبر، وهو مُخالفٌ للشهادةِ في المعنى.
          وقوله: (وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ) أي: القاذفِ، هذا من كلامِ المصنِّفِ من تمام التَّرجمة، وقد قال الشافعيُّ كأكثر السَّلف: لا بدَّ أن يكذِّبَ نفسَه.
          وعن مالكٍ: إذا ازداد خيراً كفى، ولا يتوقَّفُ على تكذيبِ نفسه؛ لجوازِ أن يكونَ صادقاً في نفسِ الأمر، وإلى هذا مالَ المؤلِّفُ ☼ تعالى، ثم استدلَّ لذلك بقوله:
          (وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلعم الزَّانِيَ سَنَةً) فيما يأتي موصولاً آخرَ الباب، وسقط <قد> لأبي ذرٍّ، واستشكلَ الدَّاوديُّ إيرادَ نفي الزاني في هذا الباب، ووجَّهَه في ((الفتح)) بأنَّه أراد منه الإشارةَ إلى أن هذه المدَّةَ أقصى ما ورد في استبراءِ العاصي.
          (وَنَهَى النَّبِيُّ صلعم) ولأبي ذرٍّ: <ونُهيَ> (عَنْ كَلاَمِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) وسقط: <ابنِ مالكٍ> من بعضِ الأصول (وَصَاحِبَيْهِ) هما هلالُ بنُ أميَّة ومرارةُ بنُ الرَّبيع.
          قال في ((المصابيح)): اجتمَعَ من أوَّلِ أسمائهم على الترتيبِ لفظُ: مكَّة، ومن آخرِ أسماء آبائهم لفظُ: مكَّةَ، انتهى. وهم الثلاثةُ الذين نزلَتْ فيهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا...} [التوبة:118] الآيةَ.
          (حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً) كما سيأتي إن شاء الله موصولاً في غزوة تبوكٍ وفي تفسيرِ براءةَ.
          ووجهُ الدَّلالةِ من ذلك أنه لم ينقلْ أنه صلعم كلَّفَهما بعد التوبةِ بقدرٍ زائدٍ على النَّفيِ والهجران، وقال الكرمانيُّ: وجهُ تعلُّق قصَّتهم بالباب أنَّ تخلُّفهم عن رسولِ الله صلعم في غزوةِ تبوكٍ معصيةٌ كالسَّرقة ونحوها.