الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب: في كم يقرأ القرآن وقول الله تعالى {فاقرءوا ما تيسر منه}

          ░34▒ (باب: في كم يقرأ القرآن؟ وقول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20])
          قال الحافظ: كأنَّه أشار إلى الرَّدِّ على مَنْ قال: أقلُّ ما يجزئ مِنَ القراءة في كلِّ يومٍ وليلةٍ جزءٌ مِنْ أربعين جزءًا مِنَ القرآن، وهو منقولٌ عن إسحاقَ بنِ راهَويه والحنابلةِ لأنَّ عموم قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، يشمل أقلَّ مِنْ ذلك، فمَنِ ادَّعى التَّحديد فعليه البيانُ، وقد أخرج أبو داود / مِنْ وجهٍ آخر عن عبد الله بن عمرٍو ((في كم يقرأ القرآن؟ قال: في أربعين يومًا، ثُمَّ قال: في شهرٍ)) الحديث، ولا دِلالة فيه على المدَّعى.
          وقال الحافظ أيضًا: وقد خَفِيَتْ مناسبةُ حديث أبي مسعودٍ بالتَّرجمة على ابن كَثيرٍ، والَّذي يظهرُ أنَّها مِنْ جهة أنَّ الآية المترجَم بها تناسب ما استدلَّ به ابنُ عُيَينة مِنْ حديث أبي مسعودٍ، والجامعُ بينهما أنَّ كلًّا مِنَ الآية والحديث يدلُّ على الاكتفاء بخلاف ما قال ابن شُبْرُمة، ولأبي عُبيدٍ مِنْ طريق الطَّيِّب بن سلمان عن عَمرة عن عائشة: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم كان لا يَختم القرآن في أقلَّ مِنْ ثلاثٍ)) فهذا اختيارُ أحمدَ وأبي عُبيدٍ(1) وإسحاقَ بنِ راهَوَيه وغيرهم، وثبت عن كثيرٍ مِنَ السَّلف أنَّهم قرؤوا القرآن في دون ذلك.
          قال النَّوَويُّ: والاختيار أنَّ ذلك يختلف بالأشخاص فمَنْ كان مِنْ أهل الفهم وتدقيق الفِكر استحبَّ له أن يقتصر على القدر الَّذي لا يختلُّ به المقصود مِنَ التَّدبُّر واستخراج المعاني، وكذا مَنْ كان له شغلٌ بالعِلم أو غيره مِنْ مهمَّات الدِّين ومصالح المسلمين العامَّة يُستحبُّ له أن يقتصر منه على القدر الَّذي لا يخلُّ بما هو فيه، ومَنْ لم يكن كذلك فالأَولى له الاستكثار ما أمكنه مِنْ غير خروجٍ إلى الملل ولا يقرؤه هَذْرمةً، والله تعالى أعلم. انتهى.
          وقال القَسْطَلَّانيُّ تحت حديث عبد الله بن عمرٍو: ((فاقرأْه في سبعٍ ولا تزد على ذلك)) وليس النَّهي للتَّحريم كما أنَّ الأمر في جميع ما مرَّ في الحديث ليس للوجوب، خلافًا لبعض الظَّاهريَّة، حيث قال بحرمة قراءته في أقلَّ مِنْ ثلاثٍ، وأكثرُ العلماء_كما قاله النَّوَويُّ _ على عدم التَّقدير في ذلك، وإنَّما هو بحسب النَّشاط والقوَّة إلى أنْ قال: وقد كان بعضهم يختم في اليوم واللَّيلة وبعضهم ثلاثًا.
          وكان ابن الكاتب الصُّوفيُّ يختم أربعًا بالنَّهار وأربعًا باللَّيل، وقد رأيتُ بالقدس الشَّريف في سنة سبعٍ وستِّين وثمان مئةٍ رَجلًا يُكنى بأبي الطَّاهر مِنْ أصحاب الشَّيخ شهاب الدِّين بن رَسلان ذكر لي أنَّه كان يقرأ في اليوم واللَّيلة خمسَ عشرةَ ختمةً، وثبَّتني في ذلك في هذا الزَّمن شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريفٍ المقدسيُّ نفع الله بعلومه، وأمَّا الَّذين ختموا القرآن في ركعةٍ فلا يُحْصَون كثرةً، منهم عثمان وتميمٌ الدَّاريُّ وسعيد بن جُبيرٍ، والله تعالى يهب ما يشاء لِمَنْ يشاء. انتهى مِنَ القَسْطَلَّانيِّ.
          وبسط الكلام على هذه المسألة في «الأوجز» وفيه قال ابن قُدامة: يُستحبُّ أن يقرأ القرآن في كلِّ سبعة أيَّامٍ ليكون له ختمةٌ في كلِّ أسبوعٍ، وهكذا في «نيل المآرب» في فقه الحنابلة... إلى آخر ما بسط.
          وفيه أيضًا: قال القاريُّ: وقد روى(2) عن الشَّيخ موسى السدرانيِّ مِنْ أصحاب الشَّيخ أبي مدين المغربيِّ أنَّه كان يختم في اللَّيل والنَّهار سبعين ألفَ خَتمةٍ، ونُقل عنه أنَّه ابتدأ بعد تقبيل الحجر، وختم في محاذاة الباب بحيث سمعه بعض الأصحاب حرفًا حرفًا. انتهى.
          قلت: وهذا مِنَ الغرائب، وقد روى الحسن بن زيادٍ عن الإمام الأعظم أبي حنيفة أنَّه قال: قراءة القرآن في كلِّ سنةٍ مرَّتين إعطاءٌ لحقِّه، لأنَّه صلعم عَرض على جبريل ◙ في السَّنة الَّتي قُبض فيها مرَّتين. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((عبيدة)).
[2] في (المطبوع): ((رُوي)).